المثقفون والفعل/بدي ابنو
“التعدديةُ هي شرْطُ الفعل الإنساني لأنّنا من جهة أنّنا بشرٌ متماثلون. ولكنّ فعلنا التعدّدي يقتضي أنْ لا يكون أي شخص يماثلُ أيَّ شخصٍ آخرَ عاشَ أو يعيش أو سيعيش”. حنا أرندت
“الكسلُ والخورُ هما من بين الأسباب ما يفسّر أن عدداً بهذا الكمّ من الناس ما زالوا يَقبلون إراديا أن يظلّوا طيلة حياتهم قاصرين وما يُفسر السهولة التي بها يصبح آخرون أوصياء عليهم.” إيمانويل كانت
ـ1ـ
عندما عَرضَ لرفاعة الطهطاوي أن يُعبّر عن المفهوم التداولي الحديث للحرية، أي المفهوم الذي صار اليوم معتاداً، كتبَ في “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”، في سياق عدة تأملات طريفة بهذا الخصوص، أنَّ “ما يسمونه الحرية هو عين ما نسميه نحن الإنصاف.” وبصيغة إضافية فالمواطنة الديمقراطية “حلفُ فضول”، تعني بين ما تعني إيمانا بمبدأ الإنصاف أي بالمبدأ الذي سمّاه بعض المتصوفة بمُنازلة الفضلاء، بما يتنافى جذريا مع كل ميول تحتكرُ الحقيقية وتصادر الآخر.
ـ2ـ
لنستعرْ إجرائيا في البداية من الفيلسوفة حنا أرند تمييزَها المفهومي بين الشغل والعمل والفعل (labor, work and action) بغرضِ أن نتساءلَ عن التموقع ـ أوْ اللاتموقع ـ الممكن، اجتماعياً أوْ سياسياً، للأنتلجنسيا أو”طبقة المثقفين”. نعني بالمثقفين، تعريفاً، أيَّ فئة من الفئات المتعلمة يتمتّعُ خطابُها أوْ يمكن أنْ يتمتّع خطابُها بخلفيته الثقافية أو الفكرية، أيا يكن مجالها وتخصّصها، بمستوى ما من الصدى والفاعلية في الفضاء العامّ. هل يمكن أن يظلّ هؤلاء خارج ميدان الفعلْ السياسي بالمعنى الاصطلاحي التقليدي ؟ بالمقابل كيفَ يمكن توصيف المتعلّمين الذين يلعبون أدواراً سياسية ولكن بشكلٍ مستقلٍّ عن الفاعلية الثقافية والفكرية بما هي كذلك. يلعبونه كـ”مُوظفين” إداريين أو حزبيين أو ما في معنى ذلك. التساؤلُ المحوري يصدرُ في الواقع عن أنه لم يعد يحتاج إلى كبير استدلال أنْ لا وجود لفاعليةٍ ثقافيةٍ وفكريةٍ للمثقف محايدة على الصعيد السياسي والاجتماعي. بل إن الفاعلية الثقافية والفكرية هي الفعلُ الذي يتجاوزُ ويشترطُ في آن الشغل والعمل، أي أنها فعلٌ سياسيٌ بامتياز. ومن ثمَّ فإن قبول “المثقف” بالاستتباع و”التوظيف” لا ينتج عنه تخلّ تامّ عن الفاعلية الثقافية كما قد يتبادر إلى الذهن بل ينتج عنه توظيف كامل السلبية لتلك الفاعلية.
ـ3ـ
لا يمنحُ الواقعُ بشكلٍ عامٍّ لـ”لمثقّفَ” أيا يكنْ موقعُه إمكانيةََ التخلّص من “تبعات” الفعل الثقافي أو الفكري حتّى في الدول “الهادئة” أو “المترفة”. لا يمنحه أي فرصة لممارسة دورٍ يخولُه الابتعادَ عن التورط. كلّ “تفكير” يصل إلى الفضاء العامّ هو بداهةً فعلٌ بالمعنى الأرندتي، هو تورطٌ في الواقع تَنتج عنه مسؤولية أخلاقية سياسية تجاه الفضاء العام. وبالتالي فإنَّ “الاستقالة” باسم “الواقعية” أو “النضج” أو باسم تضخّم الوعي أو إدراك الإكراهات، أو باسم نوعٍ من التهكّم السقراطي هي بذاتها تورطٌ في الفعل. إنها مساهمة فاعلة في خلق شروط العقل المحبط والمستقيل. إنها نوعٌ من “الجبر” و”الإرجاء” يتحالف عملياً مع الأمر الواقع، ويتغيىَ، سلبياً تكريسَه.
ـ4ـ
قد لا يُـمَثّلُ التغييرُ السياسي المؤسسي حلاً أحادياً لكلّ المشاكل التنموية ولكنّه بلا شكّ يمثلُ أحد أبرز عوامل التغيير التنموي الجذرية. منذ أواخر القرن التاسع عشر وكلُّ تجارب دول الجنوب، أو دول العالم الثالث كما كانت تسمى خلال الحرب الباردة، تبين ذلك. ولعلَّنا نتذكّرُ مرة أخرى الانتكاسة التي عرفتْها دولٌ كادت أن تُصبح صناعية إلمْ تكن أصبحتْ كذلك بالفعل. ولعلّنا كذلك نتذكر انكسار تجارب بعض الدول التي عرفتْ ارتفاعا متميزا للمستوى التربوي واستطاعـتْ أن تُكوّن أعدادا متميزة من المتعلمين وذوي الكفاءات العالية فاستفاد منها حصْراً غيرُها أمام انسداد أفقها السياسي المؤسسي. أي أنَّـها دولٌ بقيتْ في مستوى الشغل والعمل ولم تُعرْ كبير اهتمام للفعل. ومن هنا مركزية دور الفعل الثقافي أو الفكري في مواجهة الأسْر الذهني – ومثلُه التقوقع الثأري – الذي يخلقه التكدسُ السلبي لمشاعر القهر والظلم والألم وتحجّم وتحجّر الرؤى وانحدار قدرات المبادرة إلى حدودها السفلى.
119 تعليقات