جاءت الهجمات الإسرائيلية على مصانع للطائرات المسيرة ومواقع عسكرية في أصفهان في ظرف سياسي وامني خاص ودقيق ، فقد تزامن مع الضربات الموجعة التي تلقتها المنظومة الأمنية في إسرائيل بعد عملية القدس التي اسفرت عن مقتل ٧ إسرائيليين وجرح اخرين ، وعملية شارع النبي يعقوب في قلب القدس والتي اسفرت عن جرح مستوطنين مسلحين ، وحالة التوتر والاستنفار في الضفة .
فيما ظهر تخبط الحكومة الإسرائيلية من خلال اقتراحات القوانين او الإجراءات الانتقامية التي تبتعد عن منهج الدول الطبيعية وتكشف حقيقة ان ثمة عصابات تبلس ثياب الوزارء والقادة .
كما تزامنت الهجمات الإسرائيلية على أصفهان مع زيارة مدير الاستخبارات الامريكية ويليام بيرنز ووصول وزير الخارجية الأمريكية ” انتوني بلينكن ” الى القدس ورام الله .
ليس هذا فحسب انما تزامنت كذلك مع زيارة وزير الخارجية القطرية ” محمد بن عبد الرحمن ” الى طهران حاملا رسائل أمريكية للقيادة الإيرانية تتعلق بالعودة الى مسار المفاوضات النووية .
هذه الاحداث مجتمعة تكشف الأهداف الإسرائيلية سواء في عملية الهجوم داخل ايران على ما قالت التقارير انه مصانع للطائرات المسيرة او من خلال الغارات على الحدود السورية العراقية واستهداف قافلة شاحنات تعبر نحو الأراضي السورية .
الحكومة الإسرائيلية الحالية وحسب كل التقارير الإسرائيلية والدولية هي اسوء حكومة في تاريخ إسرائيل ، وولادتها عمق الشرخ والتناقض داخل المجتمع الإسرائيلي ، ما دفع الرئيس الإسرائيلي “إسحاق هرتسوغ ” الى دق جرس الإنذار قائلا ” كلنا قلقون على دولة إسرائيل. نحن جميعا ملتزمون تجاهها. غياب الحوار يمزقنا من الداخل، وأقول لكم بوضوح: إن برميل المتفجرات هذا على وشك الانفجار. هذا وقت طارئ والمسؤولية تقع على عاتقنا.. أرى أمام عيني الانقسامات في داخلنا، والتي تزداد عمقا، ولا يسعني إلا أن أتذكر أنه مرتين في التاريخ، خلال عهدي مملكة بيت داود والحشمونيين، نشأت دولة يهودية في أرض إسرائيل، وانهارت مرتين قبل أن تبلغ الثمانين من عمرها”.
كلام هرتسوغ وحده كاف لمعرفة عمق الازمة التي تعاني منها إسرائيل اليوم . ولذلك يسعى نتنياهو للهرب من هذا الواقع الى الامام ، وافتعال توتر لخلق خطر خارجي داهم يجعل الإسرائيليين يتجاوزون حالة الانقسام والاحقاد الداخلية ويلتفون حول حكومته الفاشية لمواجهة هذا الخطر . تصدير الازمات الداخلية الى الخارج سياسية تعتمدها العديد من الدول التي تصطدم بواقع داخلي منقسم وممزق . ولكن ان شخصت شرائح من النخبة الإسرائيلية هدف نتنياهو ” أي انعاش حكومة المتطرفين على حساب امن الاسرائليين ، والمخاطرة بحرب او رد إيراني مؤلم من اجل بقائه في السلطة فإن ذلك سيكون له عواقب كبيرة إسرائيل وسيعمق الانقسام ويجعله اكثر خطورة وحدة .
هذا ليس الهدف الوحيد لنتنياهو ، انما ما حملة الوزير القطري من رسائل أمريكية للإيرانيين تجعل الحكومة الإسرائيلية الحالية بتوجهاتها الفاشية في وضع حرج . الرسائل الأمريكية حملت في مضمونها دعوة طهران للعودة الى مسار التفاوض للعودة الى الاتفاق النووي ، ومن الطبيعي ان تلك الرسائل تحمل لغة تهدئة ، وهو نهج لا يناسب إسرائيل التي طالما عارضت العودة للاتفاق النووي مع ايران ، وعملت على دفع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من اجل الانسحاب منه .
هذا ما يفسر استعجال الإدارة الامريكية للتنصل من الهجمات على أصفهان ، اذ تناقض تلك الهجمات الرسائل التي بعثت بها عبر الوسيط القطري الى القيادة الإيرانية . ولم تعلن إسرائيل رسميا مسؤوليتها عن الهجمات داخل ايران ، لكن صحيفة “وول ستريت جورنال” (The Wall Street Journal) نقلت عن مسؤولين أميركيين قولهم إن الغارة بالمسيّرات التي استهدفت منشأة عسكرية في أصفهان (وسط إيران) نفذتها إسرائيل. بينما قال المتحدث باسم البنتاغون باتريك رايدر إن الجيش الأميركي لم يلعب أي دور في هذه الضربات.
المواقف الامريكية تعزز نظرية ان إسرائيل لم تخطر الولايات المتحدة بالهجمات وليس فقط لم تنسق معها . وبذلك تضرب أي نوايا أمريكية لترتيب عودة التواصل مع طهران عبر طاولة المفاوضات غير المباشرة .
اهداف نتنياهو لم تنته هنا بل ربطت تل ابيب الهجمات بالحرب في أوكرانيا لإعطائها الصبغة الغربية الأطلسية انسجاما مع الموقف الأوروبي والامريكي المندد بالتعاون العسكري بين روسيا وايران ، وإتهام ايران بنقل الطائرات المسيرة الى روسيا لاستخدامها في الحرب .
باع نتنياهو لكييف الهجوم على مصانع الطائرات المسيرة معوضا احجامه عن تقديم الأسلحة التي طلبها ” زيلينسكي” وتلكأت تل ابيب في ارسالها بحجة الخوف من دفع الثمن في السماء السورية اذا غضبت موسكو . احد المسؤولين الاوكرانيين اشترى بضاعة نتنياهو وبلع الطعم واندفع معبرا عن سعادته بهذا الإنجاز . وقال ” ميخيلو بودولاك ” مستشار الرئيس الاوكراني عبر توتير ” ان منطق الحرب مميت ولا يطاق ويجبر امير الحرب والمتعاونين معه على دفع الثمن ” ، وهو ما جعل طهران تستدعي القائم بالاعمال الاوكراني في طهران ، وتعلن عن شكوكها بتورط كييف مع تل ابيب في الهجوم . لا نعتقد ان الإسرائيليين يحتاجون لكييف لتنفيذ العدوان ، لكنهم يحتاجون زج اسمها كواجهة لاعطاء العدوان صيغة الخدمة الإسرائيلية للغرب ودعم أوكرانيا في الحرب .
نتنياهو وحكومته يرقصون رقصة الموت الأخيرة قبل النهاية ، ويضرمون النار التي سوف تحرقهم . يكفي ان ننظر الى هزالة زيارة وزير الخارجية الامريكية للمنطقة ، وهزالة ما حمله من طروحات حتى تستشرف مستقبل هذه المنطقة بوضوح .