نبيه القاسم في كتابه الجديد “حوارات في الأدب والثقافة والسياسة” الصُّعود في الحَدائق المُعَلّقة/ د. حنان عوّاد/ د. حنان عوّاد
23 أبريل 2023، 12:28 مساءً
أنْ تكتبَ عن إنسان وناقد فذّ عرفتَه، وأنْ تغوص بألقِ كتاباته وحواراته، وتسترسل في بحور إبداعاته، فأنت ترتقي في حدائق المعرفة الكونيّة المُعلّقة في فضاء الفكر والكلمة المُلتزمة ورسالة تشكّلت بوعي دقائق التّفاصيل عن معركة الوجود والهوية والصمود، في رحلة وطن مُعَبّد بالعشق الصّوفيّ، وفي تَداخلات الوقائع السياسية والنضالية، وفي عتق قلم لم يتوقّف نبضُه، ولم يتوار في الصّعب، ولم يَنْحن أمام وقائع الظلم الاحتلالي.
يعبر من نافذة الثقافة والسياسة والإنسانية في أنهار العشق وشواطئ المعرفة والفلسفة، بأناقة روحية نادرة، باصطفاف المواقف والمَعاني الأخّاذة في أفكار ترسم علامات فارقة في العلاقة ما بين الانسان والكلمة، وما بين المُفكر والوطن، لتتجلّى في إبداع الإجابة على فيض من الأسئلة المُتعدّدة المَحاور، والمُتشابكة المواضيع والمُتداخلة في أمان خزّان المَعرفة المَوْسوعي الذي حملَه الناقد الأديب الصديق نبيه القاسم.
والدكتور نبيه القاسم في سيرته المُشَرّفة ومَعالم حضوره الفلسطيني، العربي والكوني، يخترق أزاهير الرّوح في نصوصه الإبداعية وفيض مؤلفاته التي تناولت قضايا هامة في النقد والشعر والتاريخ والرواية والمسرح والقصة القصيرة ودراسات قيمة، وقضايا أخرى هامّة تُشكّل نصّا مَعرفيّا خاصّا مرسوما ببلاغة الناقد، والتزام المُفكر وإبداع السياسي. وكذلك في حضوره المَعرفي في الشهادات العليا التي حصل عليها، وفي الجوائز القيّمة والتكريمات العَديدة، والتي هي شهادة استحقاق اعترافي بعظَمَة الدَّوْر الذي قام به منذ أن انطلقت كلماتُه وسطّرت حروفها في ابداعاته المُتعدّدة الاتّجاهات.
ويأتي هذا الكتاب (حوارات في الأدب والثقافة والسياسة). (مطبعة ودار نشر أبو رحمون -عكا 2022)، ليكون نصّا مَعرفيّا شموليّا عن وقائع الحركة الأدبية في فلسطين التاريخية وباقي أجزاء فلسطين، وفي العالم العربي أيضا، من نقد وشعر ودراسات تحليلية مُعمّقة، تُلقي أضواء على هذه الوقائع في ساحات الإبداع النّوعي في معركة المَصير.
ad
هي تحليق في أجنحة المُطلق المَعرفي في زوايا المُمكن الذي يحمل للأجيال نصوصَ الإبداع الخالد بقلم ناقد وأكاديمي ومُبدع، له حضورُه المَسكون في النصّ المُقاوم.
وهي استحضار تصويري لتاريخيّة الحركة الأدبيّة والنّقديّة، بأضواء خاصّة على أعلام الإبداع بمختلف الفنون، وإطلاق أضواء خاصّة على المؤسسات والصحف الفلسطينية التي تأسّست في حقب مُتعدّدة، والدّور الوطني والثقافي الذي قامت به، ورحلة قلميّة سَرديّة مُعمّقة مع أصحاب الكلمة من الإعلاميين المُحاورين والكتّاب المعروفين، في صياغة نصوص جوابيّة تستعيد ذاكرة القارئ لتاريخيّة الفعل الثقافي، لقامات الكلمة الثائرة، الذين رسموا صفحات التاريخ الفلسطيني الوضيء بوثائق إبداعيّة خالدة، والانتماء القومي في بناء المستقبل المشرق. هذا إضافة للرؤية في تربية الشباب ومَنحهم الفرص ليكونوا رسالة المستقبل، وتشجيع إبداع المرأة وحضورها في الساحة الأدبية.
قضايا عديدة أخرى ثريّة، تناولتها هذه الحوارات، منها القضية الدرزية والتي حرص على ابراز صوتها العروبي الوطني برفض التّجنيد، والجهود الرّاقية التي بذلها لتحقيق هذا الهدف. وكذلك القضية التّعليمية التي تُشكّل أساس التربية، والتي تحدّث عنها بتفصيل الوعي التّجريبي، وهي الحال المؤلم بعدَم توفير الشروط الموضوعية اللائقة بشعبنا والمُحفّزة على العطاء والإبداع، مُحمّلا اللوم على الصّمت في إثْبات الحقّ القانوني والإنساني لتطوير وضع المدارس وتأهيل المعلمين ورعاية المناهج وإنشاء المكتبات.
“خطيئتنا الكبرى في أّننا نسكت عن الغبن اللاحق بحّقنا في مضمار التعليم”.(ص.305).
وكذلك رؤيته للنزاع العربي الاسرائيلي ومفهوم السّلام وتداعيات الاتفاقات المُوقّعة، وما أفرزته من حالة استشعارية لأوضاعنا الفلسطينية، وإيمانه بأحقيّة التجربة، مع معرفته أنّ المُحتلّ لا يلتزم بأيّ اتّفاق.
“”أعتقد أنّ النّزاع العربي الاسرائيلي وحالة الحرب شبه الدائمة بين الطرفين وضعت المواطن في وضع صعب.. فالمواطن العربي في هذه البلاد يشعر بانتمائه القومي، ويفتخر بقوميته وشعبه ويرجو المستقبل المشرق والمتقدم لشعبه.. ولكنه في نفس الوقت مواطن في الدولة وعليه واجبات عديدة.. وهنا يجد المواطن نفسه في دوامة لا خروج منها.. ويزداد ضياع هذا المواطن.. وتكبر المشكلة وتتأزّم اذا كان المُنتمي إلى أبناء الطائفة الدرزية.. اذْ أنّه من المعروف للجميع أنّ قانون التجنيد الاجباري يطبّق على الشباب العربي الدرزي منذ سنة 1956.فهذا الشباب الدرزي يجد نفسه ضائعا بين انتمائه القومي لشعب عربي عريق في التاريخ والتراث يعتز به وبين مواطنته للدولة”.(ص313).
الإيمان بيَقين النصر من خلال التجربة النضالية والصمود بالأرض، والعلاقة الملحمية والتّلاحميّة لأبناء الشعب الفلسطيني في وحدة المصير.. بمفهوم الارتباط التاريخي والعلاقة التّجذريّة مع فلسطين في مختلف مواقعها الجغرافية، وإنسانها الصامد المناضل، والأمنية بحتمية الحرية وإنهاء الاحتلال.
“وجدنا أنفسنا أمام التّحدي الكبير والَمصيري، هل نرفع أيدينا وَنقْبل باذلالنا، ونعترف لمُحتلنا وسارق وطننا أننا سنكون عبيدَه المُطيعين وخدَمه الذّليلين؟
هنا كانت صرختنا المُدَويّة لا..
وخرجنا نُواجه عدوّنا من كل ّالجهات، وكان علينا أن نكون موسوعيين في معرفاتنا ومواجهتنا.. ولمّا وقعت حرب ال 67 وانفتح أمامي عالم عربي كبير، اندفعت اليه بشوق وحب، بأنّي أنتمي لشعب عربي عظيم”(ص.28).
وقد ظهر بجلاء عمق انتمائه الوطني الفلسطيني والعربي ووحدة الفكر بمنظور الالتزام والاعتزاز بمنظمة التحرير الفلسطينية، والإيمان المُعمّق بوحدة الجغرافيا والكلمة.
وفي رؤيته لمفهوم السّلام، أكّد طرح منظمة التحرير في إقامة الدولة الفلسطينية على ترابنا الوطني على حدود ما قبل الرابع من حزيران لعام 1967.
“”أمّا كيف أرى السلام. فأنّني أعتقد أنّ الاتّفاق شبه الرسمي الذي كتبت عنه الصحف كثيرا.. والذي قيل إنّ قسما من الدول العربية ومنها مصر بالإضافة الى القسم الأكبر والمهم من ممثلي الفلسطينيين في الضفة والقطاع وخارج الحدود والذي حاز على تأييد الدولتين العظمتين وباقي دول العالم، هذا الاتفاق الذي يتلخص في عودة اسرائيل الى حدود ما قبل 5 من حزيران 67 مع بعض التعديلات الطفيفة في الحدود وإقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع وإنهاء مشكلة اللاجئين المحركة للقضية الجذرية هو الحلّ الأمثل الذي أراه”. ثم يضيف رؤيته في النزاع العربي الاسرائيلي بثلاث نقاط محورية، وهي: أنّ هذا الصراع عالمي بين المعسكرين الكبيرين، وهو نزاع بين اسرائيل والدول العربية وبين إسرائيل والشعب الفلسطيني”. (ص.315).
وقد أعطى رأيه السياسي الصريح، دون الخوض في تفاصيل القضية ومعطياتها وصعوباتها وموقف الجانب الاسرائيلي الرافض لهذه الحلول، فقد رسم الفكرة والرؤية بنَبض الأديب، وترك للسياسيين المُتخصّصين الخوض المُعمّق في هذه القضايا الشائكة.. وانحاز بقوّة لانعكاس القضية على الموقف الأدبي المقاوم.
تأخذنا الحوارات منذ البداية حتى النهاية برحلة خاصة، وبلغة تُقرّب البعيد وتُمجّد الحياة، وبوعي إدراكيّ ومعرفي لواقعية التجربة، وجَدَليّة السّؤال في فضاءات ضوئية، تُلقي اضاءاتها على قضايا المرحلة في وعي مسيرة الفكر المُلتزم.
“الرواية حافظت على إنسانيّة الإنسان الفلسطيني، وكانت واعية لدورها في الحفاظ على الأجيال الطالعة، ولم تكن عنصرية”. (ص.9).
“ان الرواية قامت عمَليّا بدور مُهم في ترسيخ آثار وأحداث النكبة لدى الأجيال الفلسطينية المُتعاقبة”.(ص.17).
تبدأ الحوارات من عرش الوجود الحالي في توصيف الوضع الثقافي والسياسي، وتتدرّج في تاريخيّة الحدَث والمَعرفة من الماضي القريب إلى الأبعد، في لغة تَواصليّة مُلفتة، مُحْكمة التركيب الجَمالي بدقّة المعلومة التي تطلقها، بلغة سَلسة مفهومة بعيدة عن التّعقيد.
والمُلفت في هذه الحوارات، أنّ روح الأديب والناقد نبيه تسير في هذه الحدائق بخطى تدرجيّة متعددة، ومُتكاملة في وهَج النصوص. فحينما تخترق نوافذ النصوص في امتدادها الزماني، وفي رحلة الضوء، ترى أنّك مُبْحر في أمواج بحرية ساكنة ومتوازنة، فحينما تقرأ حوارا في الارتداد الزماني، وتعبر الأفق الحاضر، تعيش جماليّة اللغة والموقف والعُمق والرؤى، فهي نصّ واحد شمولي، بذات الاطلالة وتلك اللغة والحَماس الوطني والمعرفي. تُبحر في الاجابات على تَعدّدها، لتراها بنفس نبض الروح وصلابة الانتماء وعظمة الفكر، رغم التفاوتات الزمنية بين كل حوار.
وتتكرّر بعض الأسئلة من المُحاورين والادباء في الاطلالة على دور الأديب والناقد في معركة المصير، وتتجاذب الحضور المعرفي للمبدع نبيه القاسم. والذي يُجيب عليها بأناقة وادعة مُسترسلة في أنْهار المعرفة التّشابهيّة في الكلمة الحرّة التي تُشرق مساحاتها في كل جميل مبدع، تُؤكد في كلّ نَصّ مع تَعداده، ما هويّة تلك القيَم العُليا التي يسير بها الأديب والمبدع.
واستحضار ذات السؤال في أكثر من حوار، يحمل دلالاته في رحلة الكشف والاشراق المعرفي، وتَوْق المُحاور إلى الوصول الى الصورة التّكامليّة في معنى أنْ تكون ناقدا وأديبا مُعمّقا في رحلة الأمل، في رسم صورة وطن الإعجاز…فلسطين.. في حنين الروح الى ثورة المعرفة، وتسلح الأجيال بالهويّة وتقديسها والدفاع عنها، وحَمْلها رسالة المواطن الذي ينتمي الى أرض العظماء، وواجبيّة النّضال حتى انهاء الظلم والاحتلال.
ويأتي النص كما يراه نبيه القاسم ليس مستقلا عن صاحبه، وانما فيه جزء لا يتجزأ من صاحبه. (ص.21).
نقرأ ما بين السطور ما يدور في الفلك الفلسطيني، العربي والدُّولي حول قضيتنا المركزية، والحلم الذي رسمَه المبدع وأكّده الناقد المبدع نبيه القاسم ، في تَحقيق الحرية وإنْهاء الاحتلال والتّغنّي بالتاريخ الوطني المُشرف لوطن لا تغيب صورته ولا يغيب، ورَسم العلاقة التّلاحميّة مع العالم العربي، إيمانا بالمَدّ الثقافي الثوري العربي، واستنادا على فكر الثورة وحضارة أمّة أراد لها الزّعيم الراحل جمال عبد الناصر أنْ تكون موحّدة في وجه الظلم، مُعتّقة بروح الانتماء القومي العروبي، مُسلّحة بقيَم النضال الأسمى، مُوشجّة بالتّضحيات. كل هذه المَعاني نقرؤها ما بين سطور الأجوبة بعُمق روحيّ أخّاذ، يقود القارئ إلى حَمْل الفكرة بروح الاعتزاز ونبض اليقين، مهما صعبت الظروف.””ان الشعب الفلسطيني، لو أخذ على نفسه، منذ البداية، أنْ يقوم بما يجب أنْ يقوم به، لما حدث كلّ الذي حدث، ولما وقعت هذه المأساة الكبيرة”. (ص.11).
“صحيح أنّ الوضع السياسي الذي نعيش فيه فرض علينا وضعا لا مَثيل له في أيّ مكان في العالم …لكنّ هذا الوضع جعلنا أكثر تيقظا وتَفهمّا ووعيا لقضايا الإنسان في العالم ككل…فأنا كعربي أعيش في هذه البلاد واحمل المواطنة الاسرائيلية، علي ّأن أختار إمّا القبول بالوضع وإمّا تَرْك البيت والأرض والرّحيل،
ولأنّني أحبّ البيت وأعبد الارض اخترت البقاء.. وبقائي علّمني الكثير…علّمني أن أحبّ الغير وأشعر معه، ولهذا لا أجد أيّ تنافر بين كَوْني مواطنا في الدولة وبين كوني عربيا أعتز ّبقوميتي وتاريخها وأبنائها.”(ص .306).
“مَكانة الأمّة بين الأمم تُقاس بما قدّمته الأمّة من أعمال ساهمت في رَفع وتطوّر حاضر ومستقبل الإنسانيّة ككل”.(ص.209).
هكذا استرسل نبيه القاسم في الحديث الشيّق العَميق الذي يجذبك لتقرأ كلّ كلمة وتعيش مَراحلها، وتُبحر في آفاقها، وتعيش بروح المُقاومة مع الأسماء الكبيرة التي رسمت فجرا خاصّا، مُخضّبا بإشعاعات نور الإبداع، بروح نُبْل المقاومة وعَظمَة الكلمات التي صاغت رسالة الانتماء والهويةّ الوطنية والوَعي الجَمْعي والتّحدّي والرّفض لكلّ شَكل من أشكال الظلم، وصنعت الأمل بالمستقبل، لتكون النصوص الخالدة رسالة حرية، وضمير أمّة.
ومنها وفيها، ننقُش حكاية قلَم وحكاية وطن أبى أنْ ينحني.
وإنّني إذْ أُهنّئ المُبدع الدكتور نبيه القاسم على نَهْر العَطاء الذي قَدّمه للحركة الثقافية، بروح المسؤولية وعَظَمة الكلمة المُقاومة، واسترسال العشق الإنساني المُطلَق، لأؤكّد بأنّه قامة الارتقاء الفكري والنّقدي النّوعي، وسيّد الحُضور في الكلمة والمَوقف، وإنسان يحملُ الصّفات الأعلى في أخلاقيّة الأخوّة والصّداقة في التزام الكلمة الحرّة والمَوقف الثابت.