أعتذر لقراء رأي اليوم على هذا الغياب المؤقت فقد كانت عندي التزامات مهنية إستغرقت أغلب وقتي، و بالمناسبة أشكر كل من سأل عني طيلة الأسابيع الماضية، و المانع خير و لله الحمد، و كم جميل أن تصبح هذه الرابطة الأخوية التي نسجت بيني و بين عدد من القراء و الزملاء الأوفياء على صفحات هذه الجريدة المناضلة، و رغم أني اعاني من نذرة شديدة في الوقت إلى جانب حالة من الإحباط الناتج عن تردي الأوضاع السياسية و الاجتماعية و الأخلاقية ببلداننا العربية ، و سيادة قيم الداروينية و المتاجرة بكل شيء –حتى في وسط الصحافة و الإعلام – إذ أصبح كثير من “الصحفيين” سماسرة للفساد و أداة لتجميل الوجه القبيح للفساد و الاستبداد، كما أن حالة الانحدار العام تجعل ما نكتبه و ما نقوله يشبه صب الماء في رمال الصحراء، فمن المؤكد لا نكتب لأنفسنا و لا ننتقد الأوضاع لأننا متضررين بشكل مباشر ، فليس لي شخصيا أي عداوة أو خصومة مع أحد من الساسة أو الأنظمة التي أنتقدها، بل ما أقوله أحيانا كثيرة يضر بمصالحي التجارية و الاستثمارية، لكن من الصعب علينا إلتزام الصمت ، و نحن نرى أن سفينة الوطن تغرق بالتدريج ، كما لا أنكر أن لي مصلحة مباشرة في نجاة الوطن و في استقراره و رخاءه، و كم نود أن نساهم في نجاة الوطن و بناءه على أسس سليمة، فدائما ما أكرر لطلبتي و زملائي أن “بيت في وسط الأكواخ فهو كوخ و كوخ وسط البيوت بيت” بمعنى نجاحنا الشخصي يظل غير ذي قيمة في ظل وطن فاشل، لأن البيئة لها تأثير و تعرقل الحركة، فالاستثمار في بيئة يسودها الفساد و الزبونية يقود حتما إلى نتائج سلبية ، عكس الاستثمار في بيئة ملائمة و بها مناخ استثماري جيد ..
و في هذا السياق العام الذي لا يبشر بالخير، نجد في المقابل أن هناك بلدان تصعد و تنمو لأنها اختارت تأسيس أوطان على أسس متينة و سليمة، و من ذلك الحالة التركية ، و أنا أتـابع المشهد الانتخابي و التنافس الشرس بين المعارضة و الأغلبية الحاكمة ، يضعنا أما حقيقة أن الأوطان لا تبنى بالاستبداد و قمع الحريات ، و إنما بالديموقراطية و الاحتكام لرأي الأغلبية و صندوق الانتخابات، و صعود تركيا في العقدين الأخيرين نتاج لهذا العامل الحاسم ..
تركيا أغلبية و معارضة تعطي لنا كبلدان و شعوب عربية درسا في التنافس السياسي الشريف، فتزييف الحقائق للأسف سمة الأنظمة القمعية المستبدة بعالمنا العربي، فنحن لسنا بصدد الدفاع عن تركيا أو أردوغان، فهو يخدم مصلحة بلاده أولا و أخيرا، لكن علينا الإقرار بأن تركيا تصعد بالتدريج إلى نادي القوى العظمي، فتركيا شهدت تحولات سياسية و اقتصادية راديكالية، ما كان لها أن تتحقق لولا تدعيم أسس الحكم الصالح، وتوسيع خيارات الشعب التركي، و جعل الشعب سيد قراره ، و الاحتكام لصناديق الاقتراع ، و جعلها الفيصل في اختيار الحاكم و السياسات العمومية…وكل ذلك تحقق بفعل نظافة يد أولي الأمر فهم غلبوا مصلحة تركيا ، بدل مصالحهم الشخصية… وحققوا الثراء لغالبية الشعب بدلا من أن يجعلوه حكرا عليهم و على ذويهم..
ad
فالديموقراطية بما تتيحه من آليات المراقبة و التنافس السياسي، ترسخ لمبدأ الشفافية و المساءلة، وتقلص من فرص الفساد و الإثراء بغير سبب، وتدعم الصالح و تدفع الطالح…فمن ينتقد أردوغان ، عليه أن يقارن بينه و بين حكامنا في العالم العربي، فثروات حكامنا تجاوزت سقف المليارات، أو مئات ملايين الدولارات على أقل تقدير، ومن هو هذا الحاكم العربي الذي جعل حجم ممتلكاته إن قل أو كثر متاحا للتداول بكل شفافية، فنحن لانعلم ثراء حكامنا إلا من تسريبات وسائل الإعلام الأجنبية، فحكامنا همهم ليس إدارة شؤون بلدانهم بقدر ما همهم إدارة و تعظيم ثرواتهم، التي جمعت بطرق غير مشروعة، أقلها استغلال النفوذ و توظيف المعلومات التي يتيحها المنصب…
فحكامنا لهم ثروات قارونية، فهذا “الديكتاتور ” و “السلطان العثماني” الذي أقام الدنيا و لم يقعدها ، يعد فقيرا معدوما مقارنة مع ثروات حكامنا المكدسة في بنوك الداخل و الخارج ، فهم يملكون عقارات و يخوت بملايين الدولارات لا يملكها حتى أغنى أغنياء العالم، و لعل المعلومات التي تم الكشف عنها بعد ثروات الربيع العربي، و حجم ثروات حكام ليبيا و مصر وتونس و اليمن و أسرهم و حاشيتهم، خير مثال على حجم الثروات المنهوبة، كما أن تسريبات باناما وويكيلكس كشفت بدورها خفايا الثروات العربية المهربة..
فحكامنا يملكون الثروات الطائلة، وكذلك وزرائنا، فمعظمهم يدخلون للمناصب وهم من متوسطي الدخل، وفي ظرف سنوات قليلة يخرجون و هم من فاحشي الثراء، مع العلم أنهم لم يرثوا ثروات من أهاليهم، فكيف راكموا هذه الثروات..؟
بل إن مسؤولي الدولة من الدرجة العاشرة ،يستطيعون تجميع ثروات في وقت قياسي، فمنهم من يحصل على راتب شهري لا يتجاوز 1000دولار، لكن حجم ممتلكاته تتجاوز ممتلكات أردوغان، الذي تولى منصب عمدة إسطنبول ما بين 1994 و 1998،ثم رئيسا للوزراء من 2003 إلى 2014، و رئيسا لتركيا من 2014 إلى اليوم… أيها الناس إن هذا الرجل فقير مقارنة بعمدة مدينة مغربية أو عربية..مع العلم أنه حقق معجزة اقتصادية ببلاده ، إذ إرتفع الناتج القومي الإجمالي من 230 مليار دولار عام 2002 إلى أزيد من 900 مليار دولار في مطلع هذا العام ، بمعدل سنوي يفوق 8%، فهل استطاعت أي دولة عربية ان تحقق مثل هذا الإنجاز؟
علينا أن نعترف أن الفساد ينخر عموم بلداننا العربية، و أن القطاع الوحيد المنظم و المهيكل في عالمنا العربي هو الفساد، فله شبكات و آليات اشتغال منظمة، و مؤسسات و غطاء سياسي و قانوني في غاية الهندسة، ورقم معاملاته ينمو بمعدل مرتفع وممتد، لذلك فإننا ندعوا حكامنا العرب أن يطبقوا مبدأ من أين لك ؟ مع العلم أنهم يعلمون حجم الفساد ببلدانهم..!!
وأستطيع الجزم أن 90 % من الذين يتصدرون المناصب و الوظائف العامة، يراكمون ثروات و مكاسب طائلة بطرق غير شرعية، وذلك راجع لعوامل و أسباب لا تتعلق بالضرورة بضعف الأخلاق أو خيانة الأمانة..لكن الرأس الفاسد لا ينشر إلا فسادا في الأطراف، فالنظافة تبدأ من الرأس، ولا يمكن لعاقل أن ينظف أطرافه السفلى قبل أن ينظف أطرافه العليا…
فتركيا نجحت لأن حكامها كانوا أقل تعاطفا مع الفساد، فحتى الجنرالات الذين إنقلبوا على الحكم المدني في فترات مختلفة، وظفوا ورقة مكافحة الفساد للإطاحة بالرؤوس الفاسدة، وتطهير دواليب الحكم من الفساد و المفسدين، للأسف فطغاة تركيا على اختلافهم وتباين عقائدهم السياسية، لكن وحدهم حبهم للوطن و المواطن، وأردوغان ليس إستثناءا من القاعدة، لكن في بلداننا المناصب العمومية مغنما ومصدرا للثراء لفئة غلبت مصالحها الخاصة، على حساب مصالح الوطن وعموم المواطنين، ولا يعني موقفنا هذا التعميم فهناك وزراء و قادة شرفاء لكن كما تقول القاعدة الفقهية “الشاذ لا حكم له”…
فبلداننا ينخرها الفساد من الرأس إلى الأقدام، والطامة الكبرى أن ذلك يتم بمباركة و تأييد ضمني من أغلبية المواطنين الذين يعتبرون ذلك ذكاءا و حسن تصرف و اقتناصا للفرص، وبدورهم يودون لو تتاح لهم الفرصة ليحققوا نفس المكاسب، متناسين آن انتهاك حرمة المال العام لا يقل خطورة عن انتهاك حرمة المال الخاص، فبلداننا -حكومات و شعوبا- متعاطفة مع الفساد و المفسدين، ولا وجود لبلد في العالم أجمع، حقق نهضة و تقدما، في ظل أنظمة راعية للفساد و حاضنة شعبية داعمة للمفسدين، فإن وجد هذا البلد فأرجوا ان تصححوا ضعف معلوماتي؟…و الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون…
إعلامي وأكاديمي متخصص في الإقتصاد الصيني والشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة.