عندما يرصِّع الشيخ بكاي وجهَ المجاز/ محمد ولد إدومو
قرأت الكتاب مرتين، مرة بدافع المتعة ومرة بدافع البحث عن الفائدة، ووجدتني في المرتين أرفل في جلابيب المتعة والإفادة معا.
إن موت مؤلف بحجم الشيخ بكاي لا يرضيني، ولا يرضي حتى طيب الذكر رولان بارت، لم أستطع أبدًا وأنا أتصفح الكتاب أن أزيحَ صورة الشيخ بكاي من مخيلتي… كنت أقرأ المؤلِّف والمؤلَّف معاً!
لذلك سأبدأ الحديث بعلاقتي بالأستاذ الشيخ بكاي تلك العلاقة التي بدأت باكرا، لقد فتحت أذنيَّ حينما فتحتهما أولَ الوعيِ على مذياع أبي و”هنا لندن”.. وكان صوت الشيخ بكاي وتقاريرُه جزءً من هذا الوعي..
لاحقاً سأشتغل في مجال الصحافة، وستتاح لي فرصة لقاء الشيخ بكاي، ولكنَّ الرهبة كانت تمنعني دائما من الاقتراب منه والسلام عليه.. كيف يمكنني أن أضع يدي في يد الشيخ بكاي على جلالة قدره؟!
ثم كنت محظوظا حينما عدتُ متأخرا شهرين بعد بداية الدرس في المدرسة الوطنية للإدارة والصحافة والقضاء ودخلت مادة “الإذاعة” فإذا بالشيخ بكاي يدخل القسم ويكتب على السبورة: “التقرير الإذاعي”، ويبدأ في نثر الدرر.
هنا عرفت الشيخ بكاي حقًّا، رجلا متقِنا لمهنة الصحافة، مهنيا حتى النخاع، خبيرا في الإتيان بالشيء حرفيا بلا زيادة ولا نقصان حسب جنس المادة الصحفية، و متواضعا! يا للهول! وجدتني ببساطة أتبادل أطراف بالحديث مع الشيخ بكاي، أناقش و أيدي وجهة نظري، وأحيانا أتبادل بعض الطرف ثم أضحك ملء فمي دون خوف ولا رهبة!
كان نعم الأستاذ، ورغم التجربة الإعلامية العظيمة التي يحملها على ظهره، ورغم التراكم، رغم الخبرة، و رغم الفارق العمري والعملي، كان ينظر إلينا في المدرسة كزملاء لا كطلاب….
أحب هذا الرجل وأحترم فيه إتقانه للمهنة، وتواضعه، و وقوفه عند ما يراه حقا، ودفعَه ثمن مواقفه ببرودة أعصاب، رغم أن الثمن كان غاليا في بعض الأحيان.
والآن أصل إلى “التراصيع”، وهي رحلة مؤثثة بالجمال، منذ صيادي النمادي والرويصات والطرائد والكلاب والنساء في الصحراء الشاسعة، وصولا إلى مالي ومغامرات الطوارق في إرادة الحياة وإثبات الوجود.. مرورا بالدراويش والزهاد من “اتلاميد ولد آده” في بطحاء بومديد، وكل الطقوس التي يقترحها منطقهم وأسلوبهم في الحياة، إلى واحة الرشيد حيث قصص الحرب وأمارات الحب وتاريخ حافل بالشجن، وحوض آرگين، مملكة إيمراگن، والعلاقة الأبدية بين مزاج الأطلسي وأمزجة كل آمريگ وتامرگيت، و تنافس الطوائف الصوفية في جارة الوادي السينغال، والحوار الدائر بين الصحراء بكل شساعتها والأطلسي بكل جبروته على مشارف العاصمة الفتية نواكشوط، وسفر جريء إلى حدود الديمقراطية في موريتانيا؛ ومحاكمة أحمد ولد داداه على ضوء نفايات الكيان الصهيوني، وفي ضيافة هيدالة ومسعود والمصطفى محمد السالك والزعيمة الثلاثينية الناها بنت مكناس، والوزير الأول الشاب محمد الأمين ولد اگيگ، ثم الانتقال بين الجمل والهيليكس في رحلة داخل عمق البادية الموريتانية، ثم الرشيد ثانيةً وما أدراك ما الرشيد؟ ثم الحلة، ثم الحياء بين المدينة والبادية، قبل أن يأخذنا الشيخ بكاي خلفه في رحلة محفوفة بالألغام المعنوية إلى الصحراء الغربية مع توقف ليس اضطراريا بالضرورة ببادية تيرس، ولاحقا مكوثا في ازويرات، بوابة موريتانيا المفتوحة على الصحراء؛ ومن الصحراء الغربية إلى لبنانيي السينغال بعد رحيل البيظان إبان أحداث 89 الأليمة، وعودة أخرى إلى الصحراء الغربية، هذه المرة عبر المرأة الصحراوية المقاتلة….
لقد استطاع الشيخ بكاي أن يخترع قاموسه الخاص، ويعيد تشكيل مفرداته التي تحمل بصمته ليمنحنا لغة جديدة لا تشبه إلا كاتبها، مزيجا ساحرا من لغة الصحافة الحافة الجافة، و لغة الأدب المنسابة التي تُفسح للمجاز مساحة شاسعة، و تعطي للعب بالكلمات إشارة مرور خضراء، و تفتح على أكثر احتمالات اللفظ إيغالا في البعد عن المعنى الحقيقي….. إن كاتبا يستطيع مزج هاتين اللغتين في خلاط واحد جدير بالاحترام، والشيخ بكاي لم يكتفِ بخلطهما فقط، بل تجاوز ذلك إلى اكتشاف عالم لغوي جديد قائم بذاته.
من الوهلة الأولى لا يخفي الشيخ بكاي عدم براءةٍ في التناول، إنه يقول بصوت واضح لا لبس فيه: أنا ـ يا سادة يا كرام ـ لست مؤرخا جئت أصف الأحداث كما هي، ولكنني في المقابل لست حياديا في المعالجة وفي الصورة التي أختار أن تلتقطها حروفي وكلماتي، وتلك التي أتركها في الظلام عمداً، دون أن أسلط عليها الأضواء الكاشفة…. إنني أكتب بمشاعري و أعيد تحرير ما اقترفته مشاعري بحدس الأديبِ و موضوعية الصحفيِّ وانحياز الإنسان إلى الإنسان.
هذا الكتاب ليس كتابا في الإعلام، ليس مؤلفا حول الثقافة، ليس قراءة في التاريخ المحكي والجغرافيا المتأرجحة، ليس سِفرا موسوما بالنسيج الاجتماعي لموريتانيا وشبه المنطقة…. إنه كل ذلك دفعة واحدة، بل أكثر.. إننا أمام تحقيقات صحفبة بنَفَس روائي، وأسلوب قصصي، و بهارات أدبية، و محسنات وصفية، مُصاغة بقلم شاعرٍ و ريشة فنان، و ومَلكة كاتب يعطي قيمة للتفاصيل، ويجعل من شخوصه أعلاما مهما كان دورهم بسيطا، ومن أمكنته مزاراتٍ تتمنى العين رؤيتها لفرط إتقان وصفها، و من أزمنته أكوانا تتوازى وتتقاطع، لتعطي قيمة مضافة لكل حكاية على حدة، ولكنها تعود لتعيد ترتيب كل الحكايات في نسق زمني ممتع بصريا، لأنه يحترم المكان، ويقدس الإنسان الذي يملأ الزمان والمكان معا.
كلمة ألقيت في ندوة حول كتاب “تراصيع على وجه الرمل” نطمها اتحاد الادباء والكتاب الموريتانيين بتاريخ 31 مايو 2023