حول المجموعة القصصية “سأنزل في هذه المحطة” للكاتبة النصراوية جميلة شحادة/ د. مصلح كناعنة
16 يوليو 2023، 11:45 صباحًا
مَن الذي سينزل في هذه المحطة؟ ولماذا؟ وما معنى ذلك؟
إنها بطلة القصة رقم 15 من هذه المجموعة القصصية، والتي تحمل نفس عنوان هذا الكتاب (“سأنزل في هذه المحطة”) الذي صدر عام 2022 عن “مكتبة كل شيء” في حيفا. إنها تلك المرأة الشابة العربية الفلسطينية المتعلمة، الحاصلة على شهادة الدكتوراه في التاريخ، التي تستقل سيارة أجرة (تاكسي) إلى “قاعة السعادة” في المدينة حيث ينتظرها المئات لتلقي عليهم محاضرة بعنوان “التأريخ يكتبه المنتصرون”، وفي وسط المسافة إلى القاعة تقرر فجأة أن تتنازل عن بقية المشوار في سيارة الأجرة فتنزل من السيارة بالقرب من محطة للحافلات (الباصات) حيث ستستقل إحدى الحافلات إلى القاعة، فتصرخ في سائق سيارة الأجرة فجأةً: “توقف، توقف! سأنزل في هذه المحطة!”
لماذا؟
لأنها لا تستطيع أن تكمل المشوار مع هذا السائق؛ لا تريد أن تستمر في الرحلة مع هذا الشاب العربي الذكوري الوقح الذي لا يرى فيها سوى جمالها وأناقتها اللذين “بهراه أكثر من أي شيء آخر” (85)، فيشيّئها ويختزلها إلى موضوع للامتلاك والاستغلال والتلاعُب ثم الرمي كالحثالة. فهو شاب عربي غير متعلم ولا يفقه شيئاً عن العالم الأكاديمي، فيظن أن كل امرأة يناديها الناس بلقب “دكتورة” هي طبيبة تعالج أمراض الجسد، ولا يعرف أن المرأة يمكن أن تكون “دكتورة” في التاريخ أو الاقتصاد أو علم الاجتماع أو علم الإنسان أو التربية، ولذا فإنه يستغل فرصة جلوسها لوحدها معه في سيارته كي يفتعل الشكوى من صداع يعاني منه ويطلب أن تعالجه، فتخبره أنها دكتورة في التاريخ، وكانت تود لو تخبره “عن الليالي التي سهرتها متبحرة في غزارة المعرفة” (84) وعن مدى الجهد الذي بذلته لاكتشاف الزيف في كتابة التاريخ، ولكنها لا تفعل، لأنها تشك في مقدرته على فهمها وتخشى أن يسيء فهم دوافعها. ومع ذلك، وبالرغم من سذاجته، يبقى ذاك السائق هو الرجل القدير المناور، وتبقى هي بالرغم من علمها الفائق الأنثى الضعيفة المختزلة إلى جسد أنثوي قابل للاستغلال! وحين لا ينجح افتعاله للصداع، يلجأ ذاك السائق إلى أساليب أخرى ملتوية ومبتذلة للتحرش بها وإيقاعها في حبائله، فهو يواظب على البحلقة فيها من خلال المرآة العاكسة ولكنها تشغل ذهنها عنه في التفكير بماضيها وحاضرها، ثم يُشغِّل مُسجِّل السيارة على أغنية شبابية تافهة ولكنها تستغل الفرصة كي تسترجع في ذهنها كلمات أغنية مطربتها المفضلة “أنغام”: “أنا ممكن أكتبلَك تعهُّد مني، إني هعيش لوحدي باقي عمري، بس أعيشه باحترام” (85-86)، ثم يُشغِّل مكيِّف التبريد في السيارة فتحافظ على صمتها وتدفئ نفسها بشال الكشمير الذي تشده حول كتفيها، وعندها “أحست بشيء يقبض روحها، شيء يهزها بشدة ويحرِّضها لتتحرك، لتبكي، لتتنفس بعمق” (ص 86). وحين بدأت تشعر بالاختناق قررت أن تضع حداً لهذه الكارثة وتغادر ذلك الرجل الرخيص العنجهي المتحرش.
امرأة شابة جميلة متعلمة ناجحة مستقلة، تقرر التنازل عن مشوارها مع رجل ليس في رصيده سوى “الرجولة” بمفهومها الذكوري ولا يرى في كيان المرأة سوى كونها جسد أنثوي شهواني ضعيف. هذه الصرخة النسوية النقدية الغاضبة على مساوئ المجتمع الذكوري وما يُلحقه بالمرأة من قمع وكبت واستلاب، هي التي تُميِّز هذه المجموعة القصصية وتطبعها بطابعها الخاص كمُنتَج أدبي في السياق العربي المحلي، ولذا فإنه ليس من الغريب أن تقرر الكاتبة أن تجعل عنوان هذه القصة عنواناً للمجموعة بأكملها.
*****
هذه الصرخة النسوية النقدية تطغى على عدد من القصص في هذه المجموعة. فهي موجودة بزخم في قصة “إصرار” التي تلجأ فيها صبية مراهقة تصر على الاستمرار في دراستها الجامعية في حين أن والدها ذا العقلية الذكورية يمنعها من ذلك، إلى اختلاق حالة من التهديد بالانتحار كوسيلة لإرغام الوالد على الاختيار بين عار انتحار ابنته وعار السماح لها بالدراسة في الجامعة، فتضطره في النهاية إلى قبول الخيار الثاني.
وهي موجودة كذلك في قصة “جيلان والذئب” التي تلجأ فيها الكاتبة إلى الغرائبية لوصف وضع المرأة المطلقة في المجتمع المحلي الذي يلاحقها بلا رحمة ويخترق حيّزها الخاص وكأنه ذئب أسود.
وهي موجودة في قصة “كيم” حيث تمتزج الذكورية بالطبقية وبالعنصرية القومية والعقائدية، فالرجل العربي وخادمته التايلاندية يقعان في حالة حب متبادل يصل إلى حد الوَلَه، ولكن حين تسأله الصبية إن كان يريد أن يتزوجها يستشيط غضباَ ويصرخ في وجهها: “هل تريدينني أن أتزوج من خادمة؟!” (96)
وفي قصة “ندبة في العنق واحتراق في القلب”، تأخذ هذ الصرخة النسوية أبعاد الاحتجاج الغاضب على الذكورية المُستَدخَلة إلى ذات المرأة في المجتمع الذكوري والمتجذرة في عمق شخصيتها، فالصبية ذات الندبة في العنق لا تستطيع أن تصدق أن شاباً يمكن أن يحبها فعلاً ويُصِرَّ على حبه لها ورغبته في الاقتران بها على الرغم من تشوه منظرها في ندبة الاحتراق التي تدمغ عنقها، إلى أن تكتشف تلك الصبية بعد ذلك بعدة سنوات أن نفس هذا الشاب فقَدَ أحد أطرافه في أحداث “هبة أكتوبر عام 2000″، فتفهم حينها كيف يمكن للمرء أن يكون استثناءً للنمط العام حتى في مجتمع ذكوري متزمت… وحين يصبح التشّوه الجسدي متبادلاً، تلتغي الذكورية والذكورية المُستَدخَلة ويصبح الحب متبادلاً أيضاً.
هذه الذكورية المُستَدخَلة هي أيضاً موضوع قصة “أريد ابناً” التي تركِّز على أهمية الابن الذكر للمرأة الأم في المجتمع العربي الذكوري.
وهذا التشرّب بالعقلية الذكورية لدى المرأة في المجتمع العربي، يصل في قصة “دعاء مُستجاب” إلى حد التناقض السافر مع العقل والمنطق، فهذه الزوجة العربية ذات الزوج الوديع اللطيف المُحب الذي لا يطالبها علناً بأن تنجب له طفلاً ذكراً، تقضي عشرات السنوات وهي تستدعي إلى الله الذي تؤمن به ملايين المرات بأن يرزقها طفلاً ذكراً، لأنها واثقة من أن ذلك هو ما يرغبه ويريده زوجها وما يرغبه ويريده كل رجل عربي، فلا يستجيب الرب لأدعيتها وابتهالاتها، فتحمل تسع مرات وتلد تسع بنات إناث واحدة تلو الأخرى، ولكن حين يصل إحباط هذه المرأة إلى حافة اليأس فترفع يديها إلى السماء بالدعاء قائلة: “اللهم اجعل ما في رحمي ذكراً سليماً معافى من كل عاهة وبلاء! اللهم كحل نظري برؤيته ولو لأيام معدودات، ثم اقبض روحي واجعلني في ذمتك وفي جوارك يا أرحم الراحمين” (28-29) … حين تستدعي إلى الله أن يرزقها ذكراً ثم يقبض روحها… حين تُشرط – من باب اليأس والقنوط – الاستجابة لدعائها بالموت بعد إنجاب الذكر، حينذاك يستجيب الله لدعائها فتلد طفلاً ذكراً ثم تموت! نفس الإله الذي لم يستجب لدعائها ملايين المرات عبر عشرات السنين، يستجيب لدعائها في المرة العاشرة حين تقبل أن تضحي بنفسها مقابل أن يرزقها بمولود ذكر! فلا الكاتبة ولا بطلة القصة تشكِّكان في ذلك أو تتساءلان حول الحكمة أو المنطق فيه، وإنما تقبلانه على أنه حكمة إلهية يعجز عقل الإنسان عن فهمه أو استنكاه جوهره. هكذا يتسرَّب الإيمان الديني البديهي المطلق من الكاتبة عبر النص إلى القارئ دون أن تقصد الكاتبة ذلك، وهكذا تتنازل الكاتبة عن عقلانيتها وعلمها ومعرفتها وفهمها في مقابل القناعة الدينية المتجذرة في أعماق نفسها، بغض النظر عن الدين الذي تعتنقه وتنتمي إليه. وإذا كانت الكاتبة وبطلتها لا تشككان في ذلك ولا تتساءلان حول منطقيته، فهل يمنع ذلك القارئ الحيادي المستنير من أن يفعل ذلك؟! وكيف يمكن أن نكون صادقين في احتجاجنا على ذكورية المجتمع ونحن (باسم النزعة القدرية) نقبل مُسلّمات هذه الذكورية كأمر لا يقبل النقد أو الشك أو التساؤل؟!
*****
بيد أن الكاتبة جميلة شحادة ليست مجرد ناشطة نسوية في مجتمع ذكوري، وهي لا تكتب القصة من هذا المُنطلق فحسب، وإنما هي مربية مُحترفة لها باع طويل في مجالات التربية والإصلاح الاجتماعي، وهذا ينعكس بقوة في قصصها القصيرة. فهي في قصة “الاختيار الصعب” تصف عبثية حياة النساء في المجتمع الذكوري المحلي وتنتقد نزعتهن إلى الثرثرة كوسيلة عبثية لقضاء الوقت. وهي في قصة “صديقتي ولكن” تمارس النقد الاجتماعي للتفاهة والتسطيح في النزعة الاستعراضية التي تسيطر على سلوك الناس على الإنترنت وفي مواقع التواصل الاجتماعي. وفي قصة “هدية الفالنتين” تقارن بين الحب الحقيقي لامرأة تتبرع بكِليتها لإنقاذ حياة زوجها، وبين الحب المُشوَّه والمُزيَّف لامرأة توصلها حياة البذخ والترف والمظاهر الشكلية إلى سرير الموت على إثر حادث طرق مفجع. وفي قصة “وجوه صفراء” تقول لنا الكاتبة أن الكل في هذا المجتمع مريض بالعنصرية والتطرف والكراهية والعنف المنفلت.
ويصل هذا النقد الاجتماعي الإصلاحي إلى ذروة الإبداع الأدبي في قصة “الصورة مشوَّهَة”، حيث تقوم الكاميرا في هاتف بطلة القصة بتشويه كل ما تلتقطه من صور، لأنها تمتلك الخاصية الغريبة في الكشف عن حقيقة المناقب والمواقف والمقاصد والأخلاق التي تختفي من وراء المظاهر المزيفة التي تقدِّم نفسها للعين المجردة ولعدسات الكاميرات العادية.
وتبرز المؤهلات الأكاديمية التخصصية للكاتبة بمنتهى الوضوح في قصة “قلوب نقية”، حيث تستعرض الكاتبة بشكل صادم المواقف النمطية السلبية لدى النساء والرجال في المجتمع تجاه الأطفال التوحديين، وتقول لنا أنه لو تُرك الأمر للأطفال أنفسهم لسادَ ذاك الحب النقي الطاهر بين الأطفال دون أية تفرقة بين طفل توحدي وطفل طبيعي، ولاختفَت المشكلة من الوجود.
*****
غير أن الكاتبة هي في نهاية الأمر كيان إنساني مستقل متكامل، وهي تعيش في المجتمع كامرأة مُفعمة بالنشاط والحيوية، لها ما لها من هموم واهتمامات ورغبات وانفعالات وفلسفات. وفي هذا السياق فإننا لا نستطيع أن نفصل بشكل تشريحي في شخصية الكاتب بين الكاتب والإنسان، ففي بؤرة وجود الكاتب في لحظة الإبداع الأدبي هناك إنسان يُطل علينا من بين السطور، وإن لم نرَهُ فإننا نبحث عنه في النص حتى نجده. ولذا فإن الكاتبة تؤلف لنا قصصاً عن مفهوم الصداقة ومعنى الحب، وعن التفاني في الإخلاص، وعن الشعور المرير بتأنيب الضمير، وعن المتعة في تحدي الذات والسعي الدؤوب نحو الهدف، وعن البندول المتأرجح أبداً بين الأنانية والغيرية وبين الذات والآخر.
وهي كثيراً ما تكتب لنا عن الأمومة بشغف الأم المتفانية في حبها لأبنائها، ولكنها بوجه عام تكتب عن الأمومة المشوَّهة في المجتمع الذكوري، حيث تتزاوج الأمومة المتفانية مع الأم كامرأة مضطهدة مقهورة. وفي قصة “طبيب جراح” يبدو وكأن الكاتبة تُعارض بين المشاعر الإنسانية العامة، المقصورة على الرجل في حيِّزه العام، وبين مشاعر الأمومة التي تهيمن على وجود المرأة في حيِّزها البيتي الخاص. فالأم المحصورة والمحبوسة في الحيز الخاص تتفانى في خدمة أبنائها، بينما الرجل المنطلق بحرية في حيزه العام يتفانى في التضحية من أجل الآخرين، ويتفانى في التضحية من أجل الوطن، والأمة، والطائفة، والدين، ومن أجل الإيديولوجيا والمفاهيم المجردة. وهذا إن صحَّ فإنما هو يشوه مفهوم الأمومة بقدر ما يشوه مفهوم القيم الإنسانية، وهذا ما هو معبَّر عنه في هذه القصة من خلال موت الابن الطفل في حضن أمه في البيت ووالده الطبيب منشغل عنه في إنقاذ طفل غريب في المستشفى.
*****
وحيث أن هذه هي المجموعة القصصية الثانية للكاتبة جميلة شحادة، فكانت قد صدرت لها المجموعة الأولى “لا تحالُف مع الشيطان” في القاهرة عام 2018، فإنني بعد قراءة قصص هذه المجموعة أنتظر أن تتحفنا الكاتبة بمجموعات قصصية أخرى لا تقل جمالاً وإبداعاً عن هذه المجموعة. ولهذا السبب فإنه لديَّ بعض الملاحظات النقدية التي أريد أن أذكرها هنا من باب النقد الإيجابي البناء:
أولاً، في 15 من بين القصص الـ 21 في هذا الكتاب، تنتهي القصة بما يسمى “النهاية الصادمة”، وهو حدث مفاجئ يصدم القارئ من حيث أنه لا يتوقعه أثناء قراءة القصة، فيصاب القارئ بنوع من الذهول الذي يجعله يتوقف لإعادة التفكير في محتوى القصة بعد الانتهاء من قراءتها. فقصة “أريد ابناً”، على سبيل المثال، تنتهي بالزوج وهو يهز زوجته بلطف ويقول لها: “ليلى، أفيقي! لقد قاربت الساعة على السابعة والنصف…” (11) الأمر الذي يجعلنا ندرك حينها أن كل أحداث القصة كانت عبارة عن حلم ليلي. وقصة “ندبة في العنق واحتراق في القلب” تنتهي بأن الممرضة خولة تدخل إلى غرفة المريض في المستشفى فتتجمد في مكانها “بينما كانت الأرض تميد بها وتهتز تحت قدميها؛ إنه زياد! إنه حبيبها الذي لم تره من سنين كثيرة، وها هي الآن تراه أمامها وقد فقد جزءاً من جسده” (36). وقصة “صديقتي ولكن” تنتهي بالبطلة وهي تقول مشيرة إلى صديقتها: “اليوم مساءً سأعرف ماذا ابتاعت من المتجر عندما كانت برفقة زوجها؛ سأعرف عندما تُدخلني إلى بيتها من باب الفيس بوك” (82)، وحينها نعرف أن كل القصة كانت تدور حول إحدى صديقاتها على الفيسبوك وليس في الواقع المُعاش. هذا الأسلوب في إنهاء القصص القصيرة هو بمثابة حبكة قصصية “بوليسية” متينة يُنصَح باستعمالها في بعض الأحيان، ولكنها ليس من المفروض أن ترتبط باسم الكاتبة القصصية كميزة مميِّزة لها فيخيب أمل القارئ كلما قرأ قصة لها وانتهى من قراءتها دون أن تصدمه نهاية القصة.
ثانياً، هناك غياب في هذه المجموعة القصصية للسياق السياسي الاحتلالي الذي يرخم بعنف على الواقع العربي في فلسطين. فالصراع التاريخي الإيديولوجي المأساوي المرير بين فئتين قوميتين تتصارعان على أرض فلسطين، لا يذكر إلا قليلًا، وبلهجة مترددة خجولة؛ مرَّة بشكل غامض مُلتبس وغير مفهوم في قصة “عربيّ” التي تتحدث عن مشاعر الأمومة لدى امرأة عربية في سياق المجتمع اليهودي الموبوء بالكراهية العنصرية في تل أبيب، ومرة ثانية في قصة “ندبة في العنق واحتراق في القلب” حيث تذكر الكاتبة هبة أكتوبر عام 2000 “في المدن والقرى والبلدات العربية” و”قتل الإخوان في الناصرة وعرابة…” (35) وذلك لتحديد المشهدية القصصية التي أدت إلى بتر أحد أطراف الشاب “زياد”، الحبيب القديم للممرضة “خولة” التي اعتقدت لسنوات طويلة أن الشاب في المجتمع العربي الذكوري لا يمكن أن يقع في حب امرأة شوَّهت منظرها الأنثوي حادثة احتراق مؤسفة، ومرة في قصة “صوت ذاك الآخر”. أما في قصة “عطر الورد” فإن السياق السياسي الاحتلالي مُغرق في الرمزية إلى حد أن معظم القراء لا يمكنهم اكتشاف معناه المبطَّن، حيث تقول: “يقولون أن البحر غدار، وفي ذلك بعض من التجني. لماذا لا يبحث الأفراد عن الجاني الحقيقي، الذي يدفع بالبحر لأن يبتلع الورود ويغرق المراكب؟” (14) عدا عن ذلك، فإن الكاتبة تؤلف هذه القصص وكأنَّها تتحدث عن واقع في فراغ سياسي، بنبرة شخصٍ تعوَّد على معايشة الوضع في الأجهزة البيروقراطية المختلفة لهذا الكيان السياسي وكأنه واقع طبيعي منزوع السياسة، وهذا مَطَبّ كثيراً ما يقع فيه كتابنا المحليين في الداخل الفلسطيني.
هذا يوصلنا إلى النقطة الثالثة، وهي أن القارئ يشعر في بعض قصص هذه المجموعة وكأنَّ الكاتبة تريد أن تمارس موهبتها الأدبية في التأليف القصصي، فتستغرق في تفاصيل الوصف وحَبك الحبكة ورسم الشخصيات دون أن يكون للقصة مغزًى أو رسالة أو غاية واضحة، وهذا هو الحال في قصة “صوت ذاك الآخر”، وكذلك في قصة “ابني في غرقته”. ولذا فإن عدداً قليلاً من قصص هذه المجموعة هو في حقيقة الأمر أقرب إلى لوحات أدبية كلامية منه إلى قصص قصيرة كنوع من الإبداع الأدبي من أجل معالجة الواقع. فالكاتبة في بعض الأحيان تلجأ إلى اللهجة التقريرية الجافة والبعيدة عن الجماليات اللغوية والإبداع الأدبي، وكأنها تريد أن تستعرض أمام القارئ ما لديها من مقدرات ثقافية وكنوز معرفية دون أن تستثمر ذلك في السرد القصصي الإبداعي.
على الرغم من هذه الملاحظات النقدية القليلة، فلا شك أن الكاتبة جميلة شحادة هي أديبة قصصية مبدعة ومتمكنة، قادرة على إبقاء رأسها مرفوعاً فوق سطح مياه المستنقع الذي يغرق المشهد الأدبي المحلي في الآونة الأخيرة.