نسج الحصائر التقليدية في بوتلميت.. صنعة نسائية يطاردها شبح الأفول
بوتليميت ( موريتانيا)- “مورينيوز”- من بلقيس إسماعيل
لا تخفي ملامح عيشة بنت حمد – وهي تصب كامل اهتمامها على صفوف من عيدان الثمام -مرصوصة بدقة على أرضية عريش خصصته لعملها في مجال نسج الحصائر التقليدية- شغف السيدة الستينية بحرفة صحبتها عقودا من الزمن، حرفة ألفتها منذ الصغر فصارت تحتل جزءا مهما من يومياتها.
وعيشه واحدة من نسوة في قرية الربيع الواقعة على بعد خمسة كيلومترات شرقي مدينة بوتلميت،تشبثن بحرفة نسج الحصائر على الطريقة التقليدية، رغم المشاق التي تبدأ من ندرة المواد الأولية، ولا تنتهي بضعف المردود المادي.
تقول عيشة :”تعلمت هذه الحرفة في سن مبكرة، وكان ذلك أمرا طبيعيا بالنسبة لجيلنا، حيث نشأنا على أن أغلب احتياجات البيت من العمل اليدوي النسائي، فكانت كل امرأة حريصة على تعليم بناتها تلك الحرف الضرورية لإقامة البيوت”.
وتتحدث المرأة بشوق عن أيام خلت، حين كانت كل إشراقة للشمس تعني موعدا مضروبا للسيدات، يجتمعن فيه عند مسكن إحداهن ويعملن بتناغم على نسج حصيرها، ثم ينتقلن في اليوم الموالي إلى تاليتها، ويستمر الأمر بشكل دوري، في ما يعرف محليا ب”التويزة” وهي عملية عمادها التعاون ولها جو خاص كما تكتنفها طقوس تختلف تفاصيلها من وسط إلى آخر.
و”التويزة” كما تقول عيشة كانت “فرصة لقضاء وقت ممتع ومفيد مع نسوة يجمعهن اهتمام ومهارة مشتركان، تتخللها بعض المشاهد الطريفة، كما تشهد أحيانا مواقف مودة وإيثار خصوصا حين تداهم إحدى النساء ظروف تستدعي التعجيل بإكمال حصيرها قبل الأخريات”.
ببراعة وسرعة تتحرك الأنامل التي نحتت سِنُو الحرفة توقيعاتها عليها عناوينَ لقصص جد وتعاون وألفة، ترسم بسيور الجلد الرقيقة نقوشا بأشكال هندسية مختلفة، مستعينة بأدوات منها (المنكار ولشفه والسكين) على تقويم الخطوط وبري أطراف العيدان التي يكمل بعضها بعضا حتى تصل المدى الذي ترغب فيه صاحبة الحصير، قبل أن تبدأ مرحلة الصبغ، وحينها يكتسي الحصير بألوانه ويبدو في شكله النهائي قطعةً فنية مكتملة.
ولا ترى عيشه” لهذه الحرفة مستقبلا” ، وتبرر نظرتها المتشائمة بوجود تحديات كثيرة حسب تعبيرها، منها الانتشار الكبير للبضاعة المستوردة، وندرة المواد الأولية وخصوصا نبات الثمام الذي انحسر وجوده جراء زحف الرمال، وكذلك جريد النخيل المستخدم بشكل أقل في المنطقة، نظرا لصعوبة جلبه من المناطق الواحاتية البعيدة، إضافة إلى ضعف القدرة الشرائية للمواطن، وبالتالي عجزه غالبا عن دفع الثمن المناسب لاقتناء قطعة أثاث تقليدية أصبحت تصنف ضمن الكماليات.
وغير بعيد منا تجلس “قله” فتاة عشرينية هي ابنة السيدة “عيشة” وخلافا لوالدتها لا تبدي “قلة” أي اهتمام بحرفة نسج الحصائر، وتقول إنها “عزفت عن تعلمها لأنها لم تلاحظ أنها تؤمن مردودا ماديا يناسب حجم المجهود” وتضيف “يزورنا في القرية أحيانا سياح أجانب يبحثون عن مثل هذه المشغولات اليدوية ويدفعون مقابلها أثمانا جيدة، ولكنها حالات نادرة جدا”. وتتدخل “عيشة” مضيفة “الظروف أصبحت تفرض توجيه البنات إلى التمدرس، وهو سبب إضافي لتوقف اهتمام الأجيال الصاعدة بالحرفة.
وعن تجربتها وزميلاتها من القرية مع تسويق الحصائر التي ينسجن، تقول عيشة “شكلنا تعاونية وفتحنا محلا للعرض في سوق بوتلميت(المدينة)، ونشارك عادة في المعارض التي تنظم في مناسبات مثل عيد المرأة، ونأمل الحصول من الدولة على دعم مادي ومعنوي يشجع على المواصلة ويغري أخريات بالالتحاق بالمجال.
على خطى الأوائل تواصل عيشة ومجموعة قليلة من المهتمات مسيرة العمل اليدوي، يواصلن بجهود استثنائية حسب وصفهن تحدي العقبات، أملا في منح مستقبل لحرفة لا تنبئ المؤشرات المتوفرة بقابليتها للاستمرار.