حلم “معاوية الشرق” وضيق “معاوية الغرب”/المرتضى محمد اشفاق
ضجت ساحة الثانوية العربية ذلك المساء عندما أزيح سيد أحمد ولد ابنيجاره عن الوزارة الأولى عقابا له، كما يحلل التلاميذ السياسيون على لقاء غير مرخص بالعقيد الليبي معمر القذافي…
اشتد الخصام بين مؤيد وساخر من معاوية ناعتا إياه ب(امحيكن آدرس ما يعادل أولا ايميل)…
واصل (محقن البشام) مساره في هدوء وانضباط…
قرأ البعض انضباطه ضعفا أمام شدة ولد هيداله، وأنه يبتلع
الإهانة بتقبل، بل بشهوة طاوي ثلاث أمام كوب عسل، وقدح من لبن لقاح…
زعموا أنه في ساعة من حمارة القيظ كلف رئيس الدولة الوزير الأول بدراسة اقتصادية لملف ذي شأن…
انحنى خبير اقتصادي قوست ظهره سنو الدراسات والبحوث، وعركته التجارب، على الملف يفحصه، ليالي ذوات عدد، فلما آنس من نفسه الفلاح، وأحس في صدره بالانشراح، سلمه لمعاوية، فاصطحبه (محقن البشام) إلى أسد عرين قصر أم الحجارة الحمراء..قلبه بسرعة وقال هذا كله فاسد…
قيل إن الخبير قال لمعاوية إن الرئيس تعجل ولم يقرأ التقرير بالدقة النافعة..انتفض معاوية كما ينتفض العجل خارت له أمه، وقال زاجرا: لا، لا، مادام الرئيس قال إن في التقرير خللا، معنى ذلك أن في التقرير خللا…وغطى فم الخبير بلاصق، وختم بالشمع الأحمر، وبصم بفرد حذائه الخشن..
كانت آية رضى الخبير أن لا يكلم معاوية، ولا الناس من وراء معاوية في ذلك الموضوع أبدا…
أهو انضباط عسكري تفرضه العقيدة العسكرية على أصحابها؟ أم هو دهاء وصبر وتحضير ليوم قيل فيه إن الملك الحسن قال فيه لفرنسا- وقد رشحت له ضابطين يخلفان ولد هيداله- إن أحدهما رجل بدوي، لا يصلح للإمارة، وإن معاوية ولد الطايع رجل مدني مؤهل لها؟؟ وبذا يكون الحسن الثاني سببا في إمارة معاوية ولد الطائع، وفي تاريخ الخلفاء أن الحسن بن علي لما استقال كان سببا في إمارة معاوية بن أبي سفيان..
اقتطع النبي صلى الله عليه وسلم لوائل بن حجر ابن ربيعة-بقية أبناء الملوك- أرضا وأرسل معه معاوية، وكان معاوية راجلا حافي القدمين، فطلب من وائل أن يردفه، فقال له وائل ما أنت بمن يكون رديف الملوك، فقال معاوية إذن أعطني نعليك، فأمره وائل أن يكتفي بانتعال ظل الناقة…
صبر معاوية وظل يجري حافي القدمين مع وائل على ناقته لإنفاذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم…
دارت الأيام وبويع معاوية خليفة للمسلمين، وجاءه وائل، فقرب مجلسه منه، وأراه فرحا وبشاشة، ثم ذكره بما كان في الزمان الأول، ويروى أن وائل قال لما رأى من حلمه: وددت والله أني كنت جعلت لمعاوية يدي فراشا…
يروى أن عمالا في مزرعة معاوية المجاورة لمزرعة عبد الله بن الزبير أغضبوا ابن الزبير، فكتب إلى معاوية: من عبد الله بن الزبير إلى معاوية ابن هند آكلة الأكباد، اكفف عني شر عمالك وإلا تر ما أنا صانع بك..
فكتب معاوية:
من معاوية بن أبي سفيان إلى ابن ذات النطاقين بنت أبي بكر الصديق ثاني اثنين إذ هما في الغار، وابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام، إذا وصلك كتابي فاضمم أرضي إلى أرضك وعمالي إلى عمالك فالجميع لك…ولما قرأ عبدالله بن الزبير كتاب معاوية بكى وأثنى عليه…
نجا معاوية بن أبي سفيان من ضربة (البرك بن عبد الله) ليلة 17رمضان أي يوم 16…
ونجا معاوية ولد الطايع من محاولة 16 مارس بعد أن صار بين يدي (كادير) ونفض عليه رماد التبغ في احتقار كما رُوي، فأنجته قفزة النافذة المشهورة، وكسر ذراعه…
بقي معاوية بن أبي سفيان في الولاية نيفا وعشرين سنة، وبقي أميرا للمؤمنين عشرين سنة..
وبقي معاوية ولد الطائع في مجلس أمراء البلاد نيفا وعشرين سنة، وبقي رئيسا للبلاد عشرين سنة…
تزوج معاوية بن أبي سفيان شامية هي (ميسون بنت بحدل) وتزوج معاوية ولد الطائع شامية هي (سادية كامل)…
زاد حلم معاوية الشرق بعد أن حكم الدولة الكبرى، واشتد ضيق معاوية الغرب حين صار سلطان هذه الديار…فحذر من (لِقْبيْلات)، وأطلق لون الفحم على قلوب بعض معارضيه…وأساء الأدب مع بعض المرجعيات الدينية..
تيدكم..أنا لا أقارن بين الرجلين، ولا أستحصد المصادفات…
مكن الله إذن لمعاوية ولد سيد أحمد ولد الطائع، فأحنى له الرقاب، وملكه الرحاب، وتخلى في هواه الأحباب عن الأحباب، واستباح فيه الأصحاب أعراض الأصحاب…
فكم من شقيق في تزلفه عادى شقيقا، وكم من صديق في تملقه جافى صديقا..
قرر استنساخ التجارب العتيقة لسياسة الغرب ونمط الحكم فيه، نجح، وشغل الناس ببعضهم وذابوا غباء فكانت فوائدها على حكمه بسط نفوذه، وإطالة فترته فوق المرجو…
لما رأى معاوية حجم استجابة شعبه، تعالى، واستخف قومه، ورآهم من الشرفة رملا، وازدحم الناس قبائل وتنظيمات وشخصيات على عتبات (الشيخ سيد أحمد ولد باب) فبايعوه يد معاوية فوق أيديهم..
تنافست القبائل بطوائفها المختلفة، المتخالفة في تضخيم الولاء، ودعت للسلطان بالتأييد والتعمير في الجهر والخفاء..
صراع الأنساق داخل جسم القبيلة طاغ وشامل، تختلف التسمية وتتوحد الممارسات،
تستقي سياسة شيوخ القبيلة من ثقافة الاستحواذ تحت شعار جلب المنفعة ورد الضرر..لكن بسواعد من؟ وبوسائل من؟؟…
ظهرت في القبيلة ثلاث بنى فوقية: سياسية، وروحية، وعلمية..أما العلمية فلا مطمح لها سوى تمكين قاصديها من مصباح يكشف لهم معالم الطريق في عبادتهم، ممارسة، واتصافا…
وطبيعي أن تكون الدولة نذيرا بتصدع المواقع العليا في نظام الهرم السلطوي الذي يجد نفسه مدفوعا إلى مباركة السلطة الجديدة، استعمارية، أو وطنية لتشابه الأنساق في بنياتها ونياتها..أليس تغولا واستعمارا واستغلالا باسم التفوق الطبقي والاستعلاء الديني والاستقواء المالي والعسكري؟؟
الأنساق تتصارع داخليا على الرأسمال البشري المتجلي في أتباع هم في السائد قطعان عوام وحواش، لا يميزون بين حلال وحرام، ولم يستفيدوا بعلم ولم ينتفعوا بتربية، حسبهم التلقين بالجري وراء البركة في تقبيل الأكف (الصالحة)، وتنفيذ حكم المؤبد للإقامة في المؤخرة…
فأذا جاء التهديد مستهدفا للنسق العام، انصهرت الأنساق في بعضها، وعطلت صراعها الداخلي إلى حين، لمواجهة الخطر المنذر بنسفها جميعا…نعم يتحول الصراع إلى تعاضد لمناجزة ذلك الخطر، وتختفي التناقضات الضيقة التي تشتد كلما دق المتصارَع عليه، وضاقت السبيل الموصلة إليه…لذلك كان من شبه المُسلَّم به مباركة الأنساق القبلية للمتسلط خوفا على مصالحها، وطمعا في منافعه، أو بصيغة حداثية بقيت سياسة القوى التقليدية رجعية توالي الحاكم، وتناصر المتغلب مهما كانت مخاطره، وجبروته وفجوره، وقد يحصنون هذه المواقف بالمبررات الشرعية، مؤولين، ومحرفين…
حاول نظام الأنساق في ظل الدولة الجديدة المحافظة على بقاء ثقافة الاستحواذ والإقصاء، بالاحتواء على المكانة المغلفة بالمصطلح السياسي الجديد، الذي يفرضه قاموس السياسة من إدارية وانتخابية، فترشح الشيْخ، والشِّيخ، والأمير للعمدة، والنائب، والشيخ…
ولما انتشر الوعي، وسمع الناس خطابا مغايرا لخطاب شيوخ القبائل وأشياخها وأمرائها، تصدع الحاجز المُعْمِي عن حقيقة هؤلاء، وتسلل إلى الواجهة قوم ليسوا من أبناء الشيوخ والأشياخ، وليسوا من أحفاد الأمراء، مُسَوقين أنفسهم أولا ببقية ولاء، ثم بالتنازل عن نصيب من المغنم السياسي،
لكنهم وهموا، فحلموا، وسولت لهم أنفسهم أمرا جللا، فآمنوا أنهم صاروا بالمحل الذي لا يصلح إلا بهم، ولا يصلحون إلا له،
ورسخوا الصنمية السياسية بآلهة متعددة، ترتبط مصيريا، وجدت نفسها في خندق واحد مع المتغلب لحجب النور حتى لا يهتدي من يدعونهم الرعية، والرعاع، والهوامش والأتباع، ويستبينوا بوعي جديد خيط الحق والعدل الأبيض، من خيط الظلم والغبن الأسود…
يسير قطيع البقر والإبل في نظام ثابت وهادئ، واحدا تلو الآخر، لذلك تسعه الطريق وإن ضاقت، أما القطيع الآدمي فيمشي في عناد، وبحث عن مساواة يطمح فيها الجاهل إلى ندية العالم، والأحمق إلى مزاحمة الحاذق، في امتداد أفقي، صفا صفا، حتى إذا ضاقت الطريق، وتحدد المغنم، وقع الصراع، والزحام، وكثر اللغط والإزاحة، على درج صعود لا يسع إلا واحدا…
قلت إنه كان من المنتظر أن تكون الدولة الحديثة ومؤسساتها، وقوانينها، نذر احتضار للهرم السلطوي ذي الركائز الثلاث…لكن ذلك لم يحدث، واكتفت الدولة بمهدئات لتسكين آلام الشعوب، ووهمت أيضا أن النظام التقليدي مخلص لها من التيه، ومنقذ من السقوط، فظلت شهادات النسب أملح الشفعاء، وأنفع الوسطاء في التسميات والمهام..