ليلة…/ المرتضى محمد أشفاق
لم يكونا من هواة شراب اللبن، والذهاب ليلا إلى أحياء الرعاة المتناثرة في حجور الكثبان، وبطون الأودية، كما كان أصحابهما يفعلون..
سمعا أن بعض الشباب ينتحل في تلك الأحياء البدوية صفة موظف حكومي، مكلف تارة بالإحصاء لتقسيم الإسعافات، وتارة لإحضار أطباء بيطريين لعلاج الحيوانات، فيتفنن البداة المساكين، وهم يرون المغالطين يسجلون بحروف تكتب من اليسار بعض الكلمات، ويتحدثون بينهم بلغة لا يعرفونها، ويبالغون في إكرامهم، مفتخرين بتضييف ممثلي الحكومة..
همست في أذنه إحدى الفتيات قائلة: (أنت مانك طبيب)، فاجأه السؤال وهو مراهق لا يحمل أي علامة توحي بصفة الطبيب، ثم علم أن بعض الشباب كان ينتحل صفة الطبيب، فتزدحم عليه فتيات البادية، وهن في عز نضجهن الجنسي، مدعيات أمراضا مختلفة في منطقة الصدر، وكن يكثرن من قول(شُوفْ كان بزُّولتي فيها اخْرَاجْ)، ليباشر الطبيب المزيف عرك نهودهن، وتحسس الداء المزعوم في بعض المناطق الحساسة الأخرى من أجسام تلك الصبايا المقصورات في عالمٍ رجالُه أحياء في النهار، يجرون وراء شوارد الإبل، وضوالها، أموات في الليل إذا عادوا هزيعا بأجسام واهية، يختطفها النوم لحظات معدودة قبل بزوغ فجر جديد من المعاناة والكدح المتواصل..
تذكر المراهق أحاديث (أحمد وعمر) عن غزوات الجنس واللبن، كانا يصفان بوقاحة مستوى الحرمان الجنسي الذي تعيشه فتيات الرعاة، وكيف ينتهزن زيارات المنتحلين، فيتمارضن لأشباع حاجاتهن، ورغباتهن المكبوتة..وكانا يتفنان في وصف نهودهن نفورا، وأشكالا، وأحجاما، ويصورون بخبث ضمور خصورهن، ونعومة ملامسهن..
تسببت رطوبة العشب في تدهور الحالة الصحية لنعالهما، فثقلت، وعلقت بها طبقات الثرى المبلل، ودخلت الأشواك الحادة بين الأقدام والنعال، وكثرت حركة الأحياء الصغيرة من مستوطنات الوادي، واشتدت الوحشة في تلك الأرض الملتفة أشجارا، ونباتا، وفي تلك الليلة الدهماء من ليالي لزوم القمر مضجعه الشرقي جل ساعات المساء…
لم يبادر الرجل برد التحية، وبدا غير مكترث، كأنهما لم يتكلما وكأنه لم يسمع، طلبا ماء للوضوء، فأنكر الطلب، وقال إنه رجل أبرص مصاب بالسعال الديكي، وإن طفلهم المريض يبكي منذ الصباح من شدة العطش…
لم تكد خيمة الرعاة تختفي في ظلام حندسي كأن أمواجه هضاب متحركة، حتى سمعا أصواتا كالرعود تقترب منهما، التفتا فرأيا قعودين ضخمين في حالة هياج، وإرغاء مفزع، تتدلى رؤسهما، يتحسسسان شما شيئا على الطريق، وينبئان عن ذروة الغضب، وانتقال الفحل إلى العمى الذي يقتل فيه الشعور بالتهيب، والتردد مهما كانت قوة المعتدى عليه…
أُلجِمت ألسنتهما عن قراءة القرآن، فلا نبس صاحبه ولا نبس، وشعرا بثقل الأرجل فلم ستطيعا العدو…
فجأة تراءت لهما أضواء مصابيح، وأنوار تتسلل من النوافذ والأبواب، ورأيا عمارات بطوابق متعددة في مدينة راقية من مدن العالم الأول، قال محمود إنه يرى مدينة (اكْيَيفْ) أو (تيمشوارا)..اختفت تماما وهما يلجان باب سورها الحديدي، وانبعث صوت غريب كثغاء جدي مخنوق، ثم تبادلت كائنات الليل عزفها النشاز، وتناوبت الأصوات المنكرة على إثارة الرعب، تارة يسمعان نقيقا، وتارة صفيرا، وطورا فحيحا، وآونة قهقهات وقحة متحدية..
وسقط محمود، تذكر أن في جيبه مصباحا يدويا، كشف الضوء شواهد المقبرة الشرقية، ومحمودا ملقى على أحد الأجداث…
واصلا السير بجلود مقشعرة، يكادان ينخلعان منها، وتعالت أصوات غناء، ونقر دفوف، التفتا جنوبا فرأيا خيما منصوبة، وما يشبه أجواء حملة سياسية، ورقصا على مصابيح تكاد من شدة ضوئها تريك حجم الحصى وألوانها…شما رائحة السجائر، فجلب لهما ذلك شيئا من المتعة والاستئناس، ولم يكادا يتبينان هويات بعض الراقصين، والمغنيات حتى اختفى كل شيء، وأطبق الليل جفنيه وهما يسبحان في بحر لجي من السواد…
أرسل في شجاعة مفاجئة ضوء المصباح فرأيا آثار الدمن، وزرائب قديمة للغنم، وقد أنبتت غابات كثيفة من شجر الهلج الصغير..وعلى بعد أمتار غرب الموقع يلمع صخر أصفر يستند على رزمة حطب متهالكة، وتهجَّيا على ضوء المصباح اسم صاحب قبر يتيم، كانا يمران عليه في طريقهما إلى خيمة المدرسة…