المقاومة الفلسطينية: من المتاح إلى المستحيل!
هناك نصيحة ثمينة تصلح للجميع أفرادا كانوا أو مؤسسات أو حتى دول مفادها أنك إذا حاولتَ أن تشتغل في دائرة المتاح، فستجد مع الوقت بأن هذه الدائرة ستتسع أمامك شيئا فشيئا، ومع الإصرار وبذل المزيد من الجهد، فستجد أن اتساعها سيصل إلى ماكنتَ تعتقد عند الانطلاقة بأنه يدخل في دائرة المستحيل، وعندها ستجد بأنك أصبحت قادرا بالفعل على أن تطرق باب المستحيل.
وفي المقابل، فإن عدم استغلالك للمتاح حاليا، اعتقادا منك بأن دائرته أصغر من طموحك، ومن الحد الأدنى المطلوب، فإن ذلك سيؤدي مع الوقت إلى انكماش دائرة المتاح لديك، والتي ستظل تضيق وتضيق حتى تختفي تماما، وحينها ستجد بأنه لم يعد بإمكانك أن تؤثر، وأنه لم يعد متاحا لك إلا أن تبقى داخل دائرة العجز الكامل، تندب حظك، وتتفرج على ما يدور حولك من أحداث جسيمة دون أن يكون لك عليها أي تأثير.
هناك مثالان يمكن أن أقدمهما عن الحالتين، ولكني مع ذلك سأكتفي في هذا المقام بتقديم المثال الإيجابي المتعلق بمن يشتغل بعزيمة وإصرار في دائرة المتاح، ويظل يوسع تلك الدائرة ويسير بها في اتجاه ما قد نعتبره ضمن دائرة المستحيل، هذا إن كان للمستحيل دائرة أصلا.
إن خير مثال يمكن أن أقدمه هنا هو ما حققته المقاومة الفلسطينية بشكل عام وكتائب الشهيد عز الدين القسام بشكل خاص في الفترة ما بين يومين من أيام أكتوبر، صادف أـولهما يوم الجمعة 26 أكتوبر 2001، وصادف الثاني يوم السبت 7 أكتوبر 2023.
قبل عشرين عاما وسنتين من الآن، وتحديدا في يوم الجمعة الموافق 26 أكتوبر 2001، وعلى تمام الساعة الثانية وعشر دقائق ظهرا أطلقت كتائب الشهيد عز الدين القسام أول عملية قصف صاروخي لها، وكانت عبر صواريخ القسام1، واستهدفت في تلك العملية مدينة سيدوروت. هذه العملية سبقتها محاولات فاشلة لإطلاق صواريخ بعضها لم يبتعد كثيرا عن قدمي مطلقيه، وقد أثارت هذه العملية وما تبعها من عمليات سخرية الكثيرين، ممن كان يتحدث حينها عن “الصواريخ العبثية”.
بعد عملية القصف تلك أصدرت كتائب الشهيد عز الدين القسام “البيان الأول حول أول قصف بصواريخ القسام”، وقد جاء في هذا البيان: “نعاهد الله ثم نعاهدكم لنجعلن حياة الصهاينة جحيما لا يطاق، ولندخلن عليهم المستوطنات والمدن، ولنخرجهم من أرضنا صاغرين بعون الله تعالى، وندعوكم إلى الانحياز دوما إلى خيار الجهاد والمقاومة وعدم اليأس، ونعدكم أن نكون المخلصين دوما حتى نحرر كامل تراب فلسطين”.
تلكم كانت فقرة من أول بيان عن أول عملية إطلاق للصواريخ في اتجاه العدو، وبعد تلك العملية بعقدين وسنتين، سيستيقظ العالم صبيحة السابع من أكتوبر 2023 على عملية طوفان الأقصى، والتي شكلت مفاجأة سارة للشعوب العربية والإسلامية، وصدمة كبيرة للعدو وحلفائه، وهي بالنسبة للجميع من قبل أن يراها، سواء من سرته أو من صدمته، تعتبر مما كان يدخل في دائرة المستحيل.
لا أحد مهما كانت سعة خياله، واتساع أحلامه، كان يتوقع أن تخلد المقاومة الفلسطينية خمسينية حرب 6 أكتوبر بحرب أكتوبر أخرى أكثر إيلاما للعدو من سابقتها.
لا أحد كان يتوقع أن يستيقظ ذات صبيحة سبت صادف يوم 7 أكتوبر من العام 2023 على هجوم بري وبحري وجوي تنفذه المقاومة الفلسطينية ضد العدو، وتستخدم فيه ما كان يصنف عند الكثيرين ـ وإلى وقت قريب ـ على أنه ألعاب أطفال.
إن ألعاب الأطفال لم تعد ألعاب الأطفال، وإن الصواريخ العبثية لم تعد عبثية، وذلك بعد أن أصبحت قادرة على أن تشغل العالم كله لمدة أسبوعين كاملين، وستشغله أكثر مستقبلا.
وإن ما كان يصنف لدى الجميع من قبل السابع من أكتوبر 2023 على أنه يدخل في دائرة المستحيل، ها نحن نعيشه اليوم حقيقة جلية على أرض الواقع، وما قد نصنفه اليوم مستحيلا قد نعيشه غدا واقعا، إذا ما ظلت المقاومة صادقة في مقاومتها، تُعدُّ للعدو ما استطاعت أن تُعدَّ له من قوة بقدرات ذاتية ومحلية، وتوظف كل متاح لديها في سبيل تحرير فلسطين.
دعونا الآن نعد لبعض العبارات أو الكلمات المفتاحية التي جاءت في أول بيان عن أول عملية قصف بالصواريخ تنفذها كتائب الشهيد عز الدين القسام.
لقد عاهدت كتائب الشهيد عز الدين القسام الله ثم عاهدتنا في بيانها الأول على أنها ستجعل حياة الصهاينة لا تطاق، لنطرح الآن السؤال: هل حياة الصهاينة اليوم مريحة؟ أترك لكم الجواب.
ووعدتنا أيضا كتائب الشهيد عز الدين القسام في بيانها الأول أنها ستدخل على العدو في المستوطنات والمدن، فهل وفت كتائب الشهيد عز الدين القسام بهذا الوعد، وهل دخلت على العدو في مستوطناته؟ أترك لكم أيضا الجواب.
ثم خُتِم البيان بهذا الوعد: “ولنخرجهم من أرضنا صاغرين بعون الله تعالى، وندعوكم إلى الانحياز دوما إلى خيار الجهاد والمقاومة وعدم اليأس، ونعدكم أن نكون المخلصين دوما حتى نحرر كامل تراب فلسطين”.
إن أكثر ما استوقفني في هذه الفقرة الأخيرة هو أن بطولات المقاومة في طوفان الأقصى والردود الجبانة للعدو جعلت الكثير من الشعوب ينحاز للمقاومة، ويتخلص من اليأس والإحباط المتراكم لعقود، ويؤمن بأن هذا الجيل بالذات من المقاومة قادر على تحرير فلسطين كل فلسطين من الاحتلال الأكثر عنصرية والأشد إجراما في التاريخ الحديث.
ومهما يكن مسار هذه الحرب فإن النصر قد تحقق للمقاومة منذ اللحظات الأولى من صبيحة السابع من أكتوبر. نعم لقد انتصرت المقاومة رغم الجرائم التي يرتكبها العدو يوميا ضد الأطفال والنساء والشيوخ، والتي فاقت كل درجات التخيل.
إن الانتصارات الكبيرة تكون كلفتها دائما كبيرة، ونحن اليوم نعيش انتصارا كبيرا في زمن شحت فيه الانتصارات: كبرى كانت أو صغرى.
حفظ الله فلسطين..
محمد الأمين الفاضل
[email protected]