“الموارنة .. بين الطائفة والرئيس” / باسل قس نصر الله
في بداية، يجب تسليط الضوء على “الموارنة”، وماذا يشكّل رئيسهم حامل اللقبين الدينيين، “الكاردينال” و “البطريرك”.
تنقسم المسيحية بشكل عام ومبسّط إلى أربعة عائلات كبيرة، هي العائلة “الكاثوليكية” والعائلة ‘الأرثوذكسية” والعائلة “الأرثوذكسية الشرقية” والعائلة “الإنجيلية”.
أما العائلة الكاثوليكية فهي بحدود “مليار وأربعمائة مليون مؤمن”، حيث يتشكل الجسم الكاثوليكي من “طائفة اللاتين”، وهي تمثل أكبر الطوائف الكاثوليكية، ويبلغ عددهم مليار وثلاثمائة وخمسون مليون، أما الباقي وهم بحدود خمسون مليون مؤمن، فهم من مسيحيي الشرق، ونسمي كنائسهم بالكنائس الشرقية الكاثوليكية، والثلث منهم تقريباً “بحدود 15 – 20” من الموارنة، وهي أكبر طائفة “كاثوليكية شرقية”.
ينتسب الموارنة إلى “مارون الناسك”، ويُشتق إسم الموارنة من إسم “دير مار مارون”، الذي أُنشىء في منتصف القرن الخامس الميلادي، بالقرب من مدينة أفاميا “قلعة المضيق” عاصمة ما كان يُعرف في ذلك الحين بسورية الثانية.
ويُعتبر هذا الدير، مهد الكنيسة الأنطاكية المارونية، وكان أول بطريرك لهم عام 685 م، هو القديس يوحنا مارون، ودَرَجَت القوانين لديهم، بأن يتّخذ كل بطريرك اسم الرسول “بطرس”، فأصبح اسم البطريرك الحالي “مار بشارة بطرس الراعي”، أما كلمة “مار”، فهي سريانية ، تعني “السيد”.
إنتقل الموارنة الى لبنان، هرباً من التضييق عليهم، واستوطنوا في الجبال، وبنوا الأديرة العديدة، والتي كان من أهمها دير قنّوبين، ويذكر التاريخ، بأن السلطان المملوكي “الظاهر برقوق” وُجد يوماً متدروشاً ومتخفياً، فاستقبله رهبان دير قنّوبين من الموارنة وأحسنوا وفادته، فأُعجب بِسيرة الرهبان الطيبين، ومنح الدير براءة على صفيحة من نحاس، يعفيه بموجبها من دفع الأموال الأميرية، ويعطيه التقدم على ما يحيط به من أديرة.
ودارت الأيام دورتها حتى الفترة العثمانية، حيث عانت مجمل الشعوب غير التركية، الكثير من التهميش والتضييق وهضم الحقوق، فمثلاً كان يتوجّب على كل رئيس طائفة مسيحية الحصول على فرمان تنصيبه، إلا الموارنة، فهم وحدهم من بين جميع الطوائف لم يلتمسوا فرمان تنصيبهم من الدولة العثمانية، لا بل رفضوا الإعتراف بالسيادة العثمانية.
منذ العام 1774، وعلى أثر معاهدة “كوتشوك كايناردجي” بين روسيا والدولة العثمانية، راحت موسكو تعلن نفسها حامية لكل المسيحيين الأرثوذكس في الدولة العثمانية. أما فرنسا، واستناداً الى “امتيازات” العام 1740، راحت هي أيضاً تطالب بأن تكون حامية ليس فقط للكاثوليك اللاتين، بل أيضاً للكاثوليك الشرقيين الذين أصبحوا – وخاصة الموارنة – وسطاء أساسيين ما بين الشرق والغرب، لا سيّما على الصعيد التجاري.
وحاول الأتراك – بعد فترة من الزمن – أن يضعوا اليد على لبنان فقسّموه إلى قائمقاميتين “مارونية ودرزية”، وزرعوا الفتنة بين الفئتين، فكانت الإضطرابات العنيفة عامي 1841 و 1845، وصولاً إلى مذابح عام 1860، التي ذهب ضحيتها الآلاف من الموارنة والروم الكاثوليك في لبنان، وحتى في دمشق.
حينها ظَهرت فرنسا بقوة، واستحصلت للبنان على نظام 6 ايلول 1864 “المتصرفية”، الذي حافظ على وحدة لبنان، تحت إدارة حاكم مسيحي غير لبناني، له صلاحيات واسعة، يُعيّنه الباب العالي، وكانت طائفة الموارنة تعتمد على فرنسا للدفاع عن كيانها وتهجّات الآخرين عليها.
وفي فترة الإنتداب – بالمفهوم الفرنسي والأممي – والإستعمار – بالمفهوم العربي – وَقع لبنان تحت سيطرة فرنسا، التي كانت ترى أن الموارنة وحدهم، من بين أهالي المناطق الخاضعة لانتدابهم، هم الفريق الذي يعرف تماماً ما يريد.
ولذلك أبدى الفرنسيون الإستعداد الكامل للتجاوب مع مطالبهم، وليس مع مطالب غيرهم. فكانت الحماية الفرنسية للبنان من خلال السيطرة عليه عسكرياً، هي تتمة لحمايتهم في أواخر الفترة العثمانية.
بعد المجمع الفاتيكاني الثاني “عُقد في حاكمية الكرسي الرسولي أو الفاتيكان، واختَتم أعماله عام 1965″، وظهرت ضرورة تعامل الفاتيكان مع الكنائس الشرقية الكاثوليكية من خلال منظمات ومجالس، فكان مجلس بطاركة وأساقفة الشرق الكاثوليك، ويرأسه دائماً البطريرك الماروني، لعدة اعتبارات منها :
إن الموارنة ، يُشكّلون ثلث المسيحيين الكاثوليك الشرقين، كما أن قداسة البابا ، قام بمنحهم لقب الكاردينال “لكل بطريرك منهم بعد المجمع الفاتيكاني الثاني” ليصبح رئيسهم ناخباً، أي يحقّ له أن ينتخب “البابا” في حال شغور الكرسي، وهو أمر لا يستطيعه غير الكرادلة فقط، كما أنه لم يتم منحه، إلّا لقلة من البطاركة الكاثوليك الشرقيين، ولكن ليس بشكل مستمر.
وقع الموارنة بتشكيكٍ حول عروبتهم وفي انتمائهم العربي، وظهر ذلك جلياً قبل الاستقلال بقليل، فلم يتورّع المونسينيور “أغناطيوس مبارك”، مطران الموارنة في جبل لبنان آنذاك، عن الكتابة إلى لجنة الأمم المتحدة الخاصة لفلسطين مقترحاً إقامة “وطن قومي مسيحي” في لبنان بالتزامن مع إنشاء “وطن قومي يهودي” في فلسطين.
وفي أواخر سنة 1947، وصل به الحد إلى تحدّي الحكومة اللبنانية بإصدار كتيب يدعو القوات المسلحة إلى التمرد، والسكان إلى العصيان المدني. وقد أمره الفاتيكان – بضغط من الحكومة اللبنانية – بمغادرة لبنان في نيسان 1948. وبعد شهرين، أعفي البطريرك الماروني أنطوان عريضة، الذي يؤيد آراء مبارك، من مهامه أيضاً.
كان الفاتيكان يصرّ على أن للمسيحيين دور – أسماه رسالة – في المحيط العربي، ولما كان للموارنة الغلبة العددية على كل الطوائف الكاثوليكية الشرقية فقد كان مهماً للرأس أن يكون وفق توجهات الكنيسة الجامعة وليس عكسها، فكان للفاتيكان رأي واضح بأنه لا مستقبل للمسيحيين – الكاثوليك على الأقل – ولا للموارنة خارج الدولة، ولا متنفس لهم، إذا أداروا الظهر للمحيط العربي الذي ينتمون إليه، وهذا ما يعمل عليه الموارنة اليوم من خلال تأكيد إنتمائهم لمحيطهم العربي وأن يكونوا داخل الدولة اللبنانية.
وقد اتفق اللبنانيون أن يكون رئيس الجمهورية من الموارنة، وذلك بعد سنوات من تشكيل “دولة لبنان الكبير”، حيث كان على الرئيس أن يكون مسيحياً فقط.
ولم ينسَ الموارنة، أنه بعد ظهر السابع عشر من أيلول عام 1952، سَرَت في بيروت شائعات، تقول ان المعارضة حركة إسلامية صرف، تسعى إلى انتزاع كرسي رئاسة الجمهورية اللبنانية من الموارنة مهما كلّف الثمن، ويعلمون تدخّل السعودية خلال انتخاب الرئيس “الياس سركيس”، حيث قام السعوديون عام 1976 بتسليم “كامل الاسعد” رئيس مجلس النواب اللبناني، مبلغاً لتسهيل انتخاب “سركيس” على سدة الرئاسة، كما تعدّدت التدخلات الموجّهة في انتخابات الرئيس اللبناني المسيحي الماروني.
أما بعد …
يعرف الموارنة بشكلٍ خاص أن الفاتيكان – من خلال الطوائف الشرقية الكاثوليكية عامة والموارنة خاصة، سيكون البوابة التي ستساعد الكثير من الدول على الإنفتاح عالمياً. والدول العربية والإسلامية تعلم ذلك.
لذلك فإن هجرة الموارنة من لبنان، ستؤثر على المحيطين العربي والإسلامي.
ومن له أذنان فليسمع.
اللهم اشهد اني بلغت.