فإنّك بأعيننا / سلطان بركاني
في الأيام القليلة الماضية، تابع العالم أجمع حيثيات صفقة تبادل الأسرى بين كتائب القسّام من جهة وبين الكيان الصهيونيّ المحتلّ من جهة أخرى، بوساطة “الصليب الأحمر الدولي”، وقد كان لافتا القدر العالي من الاحترافية التي أظهرها جند القسّام في مراسم التسليم، ما جعل ملايير البشر يقفون مذهولين أمام تلك الصور التي تظهر المأسور يخرج سليما معافى كأنه كان في فندق وليس في فنق، بل وفوق ذلك يحيّي آسره ويودّعه كأنّه يودّع حميما أو قريبا.. مشاهد تعتبر عادية لمن عرف أخلاق الإسلام ووقف على أخبار المسلمين الفاتحين في كلّ زمان، لكنّها كانت من الغرابة بمكان في منظور المخدوعين بأكاذيب الإعلام الغربيّ والعلمانيّ، خاصّة وهم ينظرون في الطّرف المقابل إلى حال الأسرى الذين أطلق الاحتلال سراحهم وخرجوا ليحكوا للعالم عن همجية الاحتلال ولا إنسانية سجونه!
لم يكن من السّهولة أبدا أن يدير جند القسّام هذه الصّفقة المشهودة بذلك التنظيم المحكم، وتلك الأخلاق العالية التي أوصلت إلى أمم العالم ما تعجز عن إيصاله المحاضرات والنّدوات والكتب، في وقت كان فيه المرابطون مشغولين بمدافعة العدوّ المحتلّ والتجهيز لإطلاق رشقات صواريخ جديدة نحو الأراضي المحتلّة، والتخطيط لتجاوز أجهزة التجسّس والتتبع والحذر من الجواسيس والعملاء. لم يكن هذا الإنجاز المبهر ليتمّ بعد طوفان السابع من أكتوبر، لولا أنّ أولئك الأبطال يتحرّكون بعين الله وحفظه ورعايته، نحسبهم كذلك: ((وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)).
موقف عاد بأذهاننا 14 قرنا إلى الوراء، حينما عانى الحبيب المصطفى -صلّى الله عليه وسلّم- ومعه القلة المؤمنة من قريش أذى عظيما، فنزل قول الله تعالى: ((وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)).. كان ضمانا يملأ القلب راحة وطمأنينة وأنسا وسعادة! وهل هناك أعظم من أن يصبح العبد ويمسي بعين خالقه ومولاه، يدبّر له أموره ويحفظه ويرعاه، ويكفيه كيد الكائدين ومكر الماكرين.. ولهذا لمّا تولّى الوليّ الحميد خليله -عليه الصّلاة والسّلام- أمره أن يتحدّى أهل الكبر والمكر قائلا: ((قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)).. تحدّاهم أن يجتمعوا ويجمعوا كلّ شركائهم، ويحيكوا أمكر خططهم، وبشّرهم بالخيبة وبأنّهم لن يضروه شيئا، لأنّ الله هو مولاه، وهو سبحانه يكلؤه بعينه ويرعاه.
وبالعودة إلى الآية السابقة نجد أنّ الله قال: ((إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)).. الوليّ الحميد -سبحانه- لا يتولّى الأنبياء فقط، ولا يرعى بعينه المرسلين فحسب، إنّما يتولّى كذلك عباده الصّالحين: ((وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)).. الصالحون يتولاّهم الله في الحياة الدّنيا فيحفظهم في دينهم ودنياهم، ويتولاهم عند الموت فيثبتهم بالقول الثابت، ويتولاهم في الآخرة فيثبت أقدامهم على الصراط ويدخلهم جنته دار كرامته.. هذا فعل الله مع الصالحين، كيف فعله مع المجاهدين والمرابطين! هؤلاء قد تصيبهم اللأواء ويزلزَلون زلزالا شديدا، لكنّهم لن يخيبوا في النهاية، ولن ينالوا إلا إحدى الحسنيين، وربّما ينالون الحسنيين معا، وهذا ما يتمنّاه كلّ مسلم صادق.
بالعودة إلى واقعنا، نجد أنّنا في هذه الحياة الدّنيا إذا تمكّن الواحد منّا من ربط خيوط اتّصال بواسطة قوية، لقضاء مصالحه؛ نراه يفرح ويفخر ويظنّ أنّه قد ضمن حياة سهلة ميسّرة يقضي فيها مصالحه بالهاتف.. وينتشر بين النّاس خبره، ويصبح صاحب شأن بينهم، يقولون عنه: “فلان صلحتلو الدّنيا.. فلان خادمها مع فلان.. وهكذا”.. هذه واسطة مخلوق ضعيف ينام ويمرض، وقد يفقد منصبه، وقد يموت، وهو في النهاية يسهّل أمور الدّنيا الفانية، وليس في وسعه أن يصلح شيئا من أمور الآخرة.. هل يقارن هذا الذي نغبطه ونحسده، بمن يتولّى الله الواحد الأحد أمره، ويدبّر له شؤونه، فيصلح له دنياه بما ينفعه لا بما يعجبه، ويصلح له آخرته؟ لا يستويان مثلا.
نحن دائما ما نلهث خلف من يصلح لنا دنيانا ويدبر لنا أمورنا بما يعجبنا ونراه خيرا لنا، ولا يهتمّ الواحد منّا بأن يسعى ليعيش حياته بعين الله. لا يهتمّ بأن يكون من أولياء الله، فيتولى الله أموره.. الله -جلّ وعلا- إذا تولّى عبده أصلح له دنياه بما ينفعه وليس بما يعجبه، فقد يحرمه منصبا يسعى للظّفر به وفيه فساد دينه، ويمكّنه من منصب آخر يصلح دينه ودنياه.. وقد يطلب الشابّ فتاة لا تصلح لدينه، فيصرفه الله عنها إلى أخرى يسعد بها في الدّنيا والآخرة… وهكذا…
ولأن قلوبنا تريد العاجلة وتطلب ما نظنّه خيرا وتصرّ عليه وتلحّ، ولا تدري أنّه ربّما يكون فيه هلاكها؛ نهتمّ بولاية المخلوقين، ولا نهتمّ بولاية الخالق سبحانه! نبحث عمن يجعل دنيانا الفانية جنّة، والله يريد لنا الجنّة الباقية في الآخرة.. نريد من يتركنا نعيش كما نحبّ ونفعل ما نريد وننام وقت ما نريد ونستيقظ وقت ما نشاء.. واللهُ -جلّ وعلا- يريد لنا أن نعيش حياة منضبطة – بطاعته مضبوطة على ما يرضيه، ويريد -سبحانه- أن يأخذ من دنيانا ليخبّئ لنا في الآخرة.. نحن نريد عافية كاملة في الدّنيا، والله يبتلينا في الدّنيا ليزيد نعيمنا وكنوزنا في الآخرة.
ولتقريب هذه الحقيقة نأخذ مثلا من دنيانا ذكره بعض الدّعاة يعرفه الأساتذة والمعلّمون والتلاميذ: في القسم الدّراسيّ، هناك تلاميذ مجتهدون، ودونهم متوسّطون.. وهناك آخرون كسالى لا همّ لهم إلا اللهو والمزاح والعبث. يريدون أن يحوّلوا القسم إلى مسرح للضّحك. يكرهون الأستاذ المنضبط ويحبّون الأستاذ الذي يقضي زمن الدّرس في الحكايات والتوافه.. الأستاذ الحصيف الذكيّ، يتعامل مع أولئك التلاميذ الكسالى كأنّهم غير موجودين، لا يهتمّ بهم فهموا أو لم يفهموا، انتبهوا أو لم ينتبهوا، أنجزوا واجباتهم أو لم ينجزوا، حضروا أم غابوا.. لا يحاسبهم، بل ولا يعاتبهم.. وهم فرحون بهذا وربّما يظنّون أنّ الأستاذ يخاف منهم.
أمّا المجتهدون، فيولِيهم الأستاذ معاملة خاصّة، يهتمّ بحضورهم، ويسأل عنهم إن غابوا، ويهتمّ بمشاركتهم في الدّرس، ويسألهم إن كانوا قد فهموا الدّرس واستوعبوه، ويتفقّد واجباتهم، ويسأل عنهم والديهم.. يعاتبهم إن أخطأوا، وربّما يعاقبهم إن بدر منهم ما يتنافى مع اجتهادهم، ويزجرهم ويهجرهم أحيانا، ويكافئهم ويشجّعهم أحيانا أخرى.
هؤلاء التلاميذ المجتهدون ربّما يظنّ بعضهم في بعض الأوقات أنّ الأستاذ يكرههم أو يغار منهم لأنّه يعاملهم بحزم، في الوقت الذي يتساهل فيه مع الكسالى والأغبياء ولا يهتمّ بهم.. التلاميذ الكسالى والأغبياء يظنّون أنّ التلاميذ المجتهدين في تعب وشقاء مع هذا الأستاذ، فيسخرون ويضحكون منهم.. لكن عندما تظهر النتائج في النهاية يدرك التلاميذ المجتهدون أنّ الأستاذ كان يريد نجاحهم وكان يجبّهم ويحبّ لهم الخير. ويدرك التلاميذ المشاغبون أنّ الأستاذ كان يعاقبهم بتجاهلهم وعدم الاهتمام بأمرهم، وأنّهم قد سقطوا من عينه وأصبحوا لا يساوون عنده التفاتة منه نحوهم أو كلمة يوجهها إليهم.
ولله جلّ وعلا المثل الأعلى؛ قد يترك الله العبد الذي يتّبع هواه ويسير خلف شهواته ويطلب الدّنيا العاجلة وحدها، يتركه لنفسه وهواه، ويعطيه من الدّنيا ما كُتب له؛ ينجح في عمله فيما يظهر له، ويتزوّج من يظنّ بها سعادته، ويكسب ما يريد، فيخيّل إليه أنّه قد نجح حقيقة في حياته، وأنّ ذلك لكرامته عند الله، وينسى أنّ الله يستدرجه، ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُون))، وربّما ينظر إلى عباد الله المستقيمين على طاعة الله، وهم يحثّون الخطى إلى المساجد، ومع ذلك لم ينالوا من الدّنيا ما نال، فيشفق عليهم وربّما يستهزئ بهم ويسخر منهم، وهو لا يدري أنّ الله قد أنقص لأولئك من دنياهم ليعطيهم ما هو خير وأبقى: ((زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)).. أولئك الذين لا همّ لهم إلا أن يرعاهم الله بعينه ويتولاهم ويكتب أسماءهم في سجلّ أوليائه، قد يبتليهم الله ويسلّط عليهم ما يشاء ليسمع دعاءهم وبكاءهم ويراهم وهم يلوذون ببابه فيكتب لهم رضوانه ويورثه جنّته، ويرسل الملائكة لتتلقّاهم عند الجنّة وتقول لهم: ((سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)).