حينما تخطب البغي في المساجد…
ماذا أفعل بهذا القلم الحرون…؟ هل أكسر رأسه وأرميه للنمل يقتات علي جثته بعد هذه العشرة الطويلة التي امتطيت خلالها ظهره حتي وصلت إلي حيث أنا الآن؟…
لن يلومني أحد إذا أنا فعلت، فكم من لئيم أدار ظهره – بعد أن اشتد ساعده – لمن كان سنده أيام العسرة …!!
هل أؤجره…؟ فكرة معقولة في عهد يؤجر فيه الناس ضمائرهم ، ومصاحفهم ، والمناطق السرية من نسائهم … ولكن ماذا أربح من تأجير قلم لا يأكل ” السحت”، ولا يتقن فن الوقوف في الزوايا المظلمة وتصيد الباحثين عن ” المتعة ” الحرام ؟ … ثم من ياتري يستأجر هذا القلم ” الأصولي” … ؟ أو ليست هذه الربوع غارقة في بحر من الحبر المزور الرخيص ، متعدد الألوان والأشكال …؟
***** ****
هذا الصباح أمسكت – علي عادتي – عنق القلم الأزرق الذي عهدته يعشق المطارحة ، والمكاشفة ، والهمس الناعم، لكنني ألفيته واجما مكتئبا لا يظهر أية رغبة في الحديث… قبلت رأسه طويلا … أشعلت سيجارة ، وطلبت كأس شاي … لكنه واصل الرفض ..
عصرته – مثلما يعصر مسؤولو الحكومة آخر قطرة دم في خزائن المال العام – فلم يزد علي إصدار زفرة حزينة صامتة …
***** ****
ماذا أصابه … ؟ ولم هذا الإضراب ؟ … فكرت جديا في استدعاء الشرطة لإفهامه أنه حتي ولو كان دستور “الجمهورية ” يكفل حق الإضراب ، فإن أمن الجمهورية لا يعترف به … فالدستور والقوانين المتفرعة عنه كلام يسطره رجل بيده اليمني ، وتنفذه اليسري حسب الظروف والحالات … أليس ” تفسير ” القانون مثلا يمنح وزارة الداخلية الحق في ” اعتقال ” الصحف ست ساعات فقط ، يتم بعدها الإفراج ، أو إصدار حكم بالحرق …؟ وإذا لم يصدر حكم بالإعدام ، أو قرار بالإفراج خلال الساعات الست، بطل حق الوزارة في “الإعتقال الإداري”..؟ هذا ما لم يستفد منه العدد الأخير من ” المراقب ” ، فقد سلمت رقبة العدد للوزارة في الصباح الباكر ، ولم يستعد حريته إلا في حدود الرابعة والنصف ، وبما أننا لا نعتبر أن وراء الأمر سوء نية فإننا نورده هنا فقط من باب البحث عن أسباب معقولة لإضراب قلم.
***** ****
قد يكون السبب وراء إضراب هذا القلم شعوره – ربما – بأنه حتي الدعوةإلى الفضيلة ما عاد لها معني … فالبغي تمارس الفجور في الليل ، وفي النهار تخطب في المساجد … وأكلة لحوم البشر يدبجون الخطب ويملأون أعمدة الصحف بالدعوة إلي الأخلاق الحميدة ، وإلي الصفاء والأخوة … والمختلسون والمرتشون يطالبون بقطع يد السارق ، وتطبيق مبدإ ” من أين لك هذا ” …!!
إنهم يمعنون في إفساد البلد إلي درجة العمل علي ” تتفيه ” القيم الفاضلة بالدعوة إليها …
لقد أتت هذه الفئران علي الأخضر واليابس في البلد ، وسدت الطرق أمام الخيرين فيه … أساءت إلي كل ما هو جميل وأصيل … زرعت قيم الشر … وليس عدلا أن تحرم الآخرين لذة الشعور بالتميز … ليس عدلا أن تحرمهم القدرة علي تربية أطفالهم علي قيم الخير ، فالمجال الإدراكي لدي الطفل محدود ، ولن يستطيع أن يميز الخير من الشر إذا لم يلتزم كل بخطابه الطبيعي المتناسق مع سلوكه …
أيتها القوارض خذي أنت المال … خذي الوظائف … خذي القطع الأرضية ، والرشاوى … إرتعي في أجسادنا… إنهشي لحمنا، إشربي دمنا … حذي كل شيئ … لكن دعي لغيرك كلمة حق لا ترفع رصيدا في حساب ، ولا تبني قصورا ؛ لكنها أساس الحياة لدي البعض … زاد البعض … وعزاء البعض …
لم نطلب المستحيل … أليس كذلك ؟
الشيخ بكاي
جريدة “المراقب” العدد 22 بتاريخ 5 أغسطس 1996