باريس قصيدة حُبٍّ/ آسية عبد الرحمن
باريس أنثى، إما أن تقع في حبها من أول لقاء، وإما أن تموت وأنت تلعن جمالها الرتيب، وقلقها المتجدد، وطابعها الأكاديمي الصارم، فهي المدينة المطلة أبدًا على نهر السين الذي يلتف حول خصرها كعاشق، ويحاصرها من كل اتجاه كرقيب! حديقة “لكسمبورغ” هي نفسها منذ أول يوم، وحدائق “التوليري” هي ذاتها بنوافيرها الراقصة وعشبها الأخضر، متحف اللوفر كابتسامة الموناليزا دائمًا بنفس الكَمّ ونفس الكيف! ساحة “الكونكورد” لا تزال تفتح أذرعها لأسراب الهابطين من الشانزليزيه دون أن يضيق لها صدر..
“الفاندوم” لا تزال محجّ المتسوقين ببذخ، فلا الباعة يكتفون، ولا نهم التسوق يشبع!
جادة الشانزليزيه هي نفسها بلغطها المنتظم ومقاهيها المكتظة في تجانس شعريّ أخّاذ!
مقهى جورج الخامس زاحمته الأمركة بستاربكس وأخواتها لكنه ظل صامدًا يقدم لرواده القهوة غير مكترث لما استجدّ من نكهات أفقدت البنّ أصالته وأريجه عبر التاريخ.
باريس قصيدة حُبٍّ كُتِبَتْ ليقرأها كل عاشق على طريقته، يرى فيها روميو وجهَ جولييت، وقيس جدائلَ ليلى، ويبصر فيها جميل أردافَ بثينة وهي تمشي متباطئة على تلاع نجد!
لا جديد أبدًا في باريس، فهي نفسها منذ القِدَم، صمدت أمام معاول النازيين، وراقصت الثوار، وخلعت أثواب الملكية دون أن تخلع أي ثوب! باريس مدينة محنطة بتعاويذ العشق، فعلى امتداد نهر السين تتراءى لعين المجتلي روائع باريس، أرتالًا من أقفال الحُبِّ التي أغلقها العشاق على أمانيهم ورموا المفاتيح في قعر السين، ولذلك ظل السين يتدفق، وظلت باريس تتألق!
ليس لباريس عقدة التمدد العمودي التي لدى بعض المدن، فجذورها ممتدة في التاريخ، فلا تكاد تجد برجًا يعانق السحاب.. وعندما تنظر إلى أعمدة البنايات الممتدة نحو السماء في “لاديفانس” تدرك أنها لا تمتُّ إلى باريس بصِلة، حتى “تور مونبارناس” الذي يهمس بتمتمات الغرام في أُذُن برج إيفيل، أجده غريبًا على هذه المدينة الممتدة أفقيًّا كحديقة بيضاء من الياسمين!
ربما باريس الأنثى الوحيدة التي لا تكترث للمطر ولا تخشى أن يُحيلَ الماء زينتها إلى لوحة عبثية تتداخل فيها الألوان في تشابك فوضوي، فباريس تصنع أحمر الشفاه دون أن تضعه! في باريس تفتح ذراعيك لعناق لا يحصل، وتتخيل لقاءً لن يكون، وتتداخل في وجدانك ألوان وصور للوحة فنية لا تتشكل.. وتطوّر في خلدك فكرة لقصيدة عصماء لا تولد.. إنها متلازمة تصيب كل من يزور باريس، فباريس تزرع في داخلك طيوف الفن وخيال الشعر ووهم الحب الذي لا يثمر أبدًا..! في باريس تحاصرك المشاعر التي كُتمت، والوعود التي أُجِّلَت.. في باريس ينفرد بك قلبك مُحدثًا ومُتوسلًا: أمَا آن لي أن أتحرر؟!