وقفات سريعة في الزمن الرديء/ دكتور محيي الدين عميمور
7 نوفمبر 2024، 12:12 مساءً
* – الوقفة الأولى.
في سماء الوطن العربي التي اشتد ظلامها بفضل ملوك الطوائف الجدد الذين جعلونا نسير مطأطئي الرأس أمام شعوب العالم، وحتى أمام شعوب الدول التي عانينا من استعمارها، تبرز نجوم تخترق الظلام لتوجه الأبصار نحو شرقٍ ستبرز منه شمس النهار.
هذا ليس من أحلام اليقظة ولا من تخاريف دخان أزرق، لم أعرفه حتى الآن، ولكنه واقع بدأ يفرض نفسه كذلك الخيط الأبيض عند الفجر، تابعته في حدود ما سمحت به الشاشات الصغيرة ومواقع التواصل الاجتماعي وتعليقات “رأي اليوم”.
إنه واقع المواطنين من أرض الكنانة الذي عبّروا، في حدود المتاح، عن إدانتهم للسلطات التي فضحتها “كاثرين” والمدمرة الإسرائيلية، والمتابع لمواقعهم يكاد يحس بنار الغضب تلفح وجهه من قوة التعليقات.
وهو واقع النشامى في الأردن الذين عبر عنهم ماهر حجازي، ذلك الشهيد العظيم الذي وقع بدمه رسالة الغضب العربي ضد الكيان الصهيوني.
وهو واقع جماهير الشعب المغربي، سليل الخطابي ومحمد الخامس، الذي قال للرئيس الفرنسي في وجهه: رشوتك مردودة عليك، فالمقاومة الفلسطينية هي فخر العروبة والإسلام.
وهو واقع مفتي عُمان الشيخ أحمد الخليلي، الذي عدّل رجّح الميزان أمام علماء آخر الزمان فكرم رجال المقاومة، وقال عن استشهاد “يحي السنوار” إنه لحق بإخوانه المجاهدين، وبدون أن أنسى وقفة الرجولة التي وقفها شيخ الجامع الأزهر الدكتور أحمد الطيب، والله وأولو العلم يعرفون ما يعانيه من ضغوط واستفزازات.
وهي مواقف مذيعاتٍ متعدداتِ الجنسية استقلن من تلفزة عربية، أصبحت أكثر عبرية من قنوات الكيان، ولا أتوقف عند حملة الجنسية الفلسطينية محمد عبيد ولانا كلغاصي، فهما جديران بالأسبقية.
ولن أستعرض مواقف مواطنين كثيرين في العراق وتونس والجزائر وموريطانيا ومواقف أخرى لم أتمكن من متابعتها.
والمهم هو أن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، وأول الغيث قطرٌ.
* – الوقفة الثانية.
عادت إلى ذاكرتي ذكرى الفيلم الجزائري “سنوات الجمر” الذي حصل على السعفة الذهبية في مهرجان “كان” الفرنسي بداية السبعينيات.
يومها شاهد الرئيس هواري بو مدين الفيلم في قاعة عامة، واستدعى بعدها مخرج الفيلم ليصب عليه جام غضبه قائلا: “أنت برّأت الاستعمار بهذا الفيلم”، وهو ما اضطر “حامينة” إلى إجراء تعديلات صححت، إلى حدّ ما، بعض أخطاء الفيلم السياسية.
وعندما مُنح الفيلم الجائزة الفرنسية تأكدت نظرة بو مدين، وهو الذي كان يقول دائما: إن كلمة مدحٍ تقولها المصادر الفرنسية في عمل نقوم به تجعلني أشك في صوابه.
وعندما أراجع المسيرة العربية، في نصف القرن الماضي على الأقل، أحس بأن كثيرا مما كنا نعيشه كان يمثل عملية اختراق ممنهجة، تذكر بحكاية مخبر “لعبة الأمم”، التي كان البعض يتصور أنها من المبالغات الإعلامية.
وكمثال يعرفه الجميع وهو مسلسل “رأفت الهجان”، وبغض النظر عن أن الأستاذ “محمد حسنين هيكل” كان لا يثق في كثير مما جاء فيه، فإن المسلسل، وأيضا بغض النظر عمّا إذا كان ذلك بحسن نية أو بقصد متعمّد، قدّم لنا صورة جميلة للمجتمع الإسرائيلي، فمن الذي لا يحترم “سيرينا أهاروني” ومن الذي لا يعطف على الجنرال دان رابينوفيتش العجوز الذي ياول إرضاء زوجه كلارا الجميلة، ومن الذي لا يعجب بسكرتارية “شارل سمحون”، إستر بو لنسكي ويهوديت مردخاي، ناهيك من أن المسلسل تجاهل تماما كل ما يتعلق بالشعب الفلسطيني وما يعانيه من قتل وعنف وتشريد.
وكان هذا اختراقا غير مباشر للساحة العربية، لأنه كان خطوة على طريق تطبيع العلاقات مع الكيان عبر خلق التعاطف التلقائي مع شخصيات تنتمي للكيان.
والحديث عن الاختراقات يجعلنا نسترجع الكثير مما عشناه في السنوات الماضية، وخصوصا ما كنا نقرؤه ونسمعه من الفتاوى التي تُحرم وتحلل بما يؤدى إلى تفتيت وحدة الأمة تدريجيا، والتناقض السُنّي الشيعيّ ، وعراك السلفية والمدخلية والوهابية وما إلى ذلك، وهو من بين ما عشنا آثاره وتداعياته
وهناك التصريحات الإعلامية التي تكاملت معها في تعميق الشروخ التي وصل إلى أن البعض أصبح لا يخجل من القول بأن الكيان الصهيوني أرحم من الشريحة المسلمة الأخرى.
ولا أتناول الأغاني والأفلام والمسلسلات والمقالات الصحفية التي كانت، بوعي أو بعباطة، تشيع الخدر والخمول واللامبالاة في أوساط الجماهير.
* – الوقفة الثالثة.
أعترف بأنني لم أكن متحمسا لتنظيم عرض عسكري بمناسبة الاحتفال بالذكرى الـ70 لثورة أول نوفمبر.
وكان من أسباب هذا، بجانب الجوّ العام المرتبط بمأساة غزة على وجه الخصوص، إحساسي بأن البعض، هنا أو هناك، يتصور أن العرض هو لتخويف هذا أو ذاك بالأسلحة المتطورة التي تملكها الجزائر، والتي اقتنتها بلادنا بفضل ما حبانا به المولى عز وجل من إمكانيات، ولم يكن منحة من أحد، بشكل مباشر أو غير مباشر.
وكان ذلك تصورا خاطئا أراد البعض تمريره، حيث أننا نعرف جيدا أنه لا أسرار بالنسبة لامتلاك الأسلحة، في عالم تستطيع فيه التحالفات مع الكيانات المعادية أن تعرف الكثير، بالرشوة أو الابتزاز أو التوافقات العقائدية.
ونحن ندرك أن المهم هو استيعاب الأسلحة الحديثة والتحكم في أدائها.
لكن الأهم من ذلك كان، في نظري، إبراز الاندماج الكبير بين الشعب وجيشه، وهو من بين ما أكده الاستعراض، ولهذا أتصور أنه أول مبرراته.
والواقع أن الأمر الذي جعلني أغيّر رأيي وأنتقل به من الفتور إلى الحماس هو التفاعل الرائع للجماهير مع فقرات الاستعراض، والذي ظهر من خلال عشرات صور”الفيديو” التي التقطها مواطنون بسطاء استطاعوا أن يتفوقوا على التلفزة العمومية، التي فشلت في تقديم الرسالة السياسية الأساسية من الاستعراض، وهو اعتزاز الشعب الجزائري بجيشه وبمقاتليه، خصوصا وأن روعة أداء القوات الراجلة والمحمولة كان يستثير الفخر.
وسالت دموعي وأنا أرى صورة من الخلف نُشرت في الـ “فيس بوك” لطفل لعله، حسب طوله، لا يتجاوز العاشرة من العمر، كان يقف مؤديا التحية العسكرية لبعض قوات الاستعراض التي تمرّ عن بعد، والمؤكد أن أحداً لم يطلب أحد منه ذلك، حيث روى لي بعض متابعي الاستعراض أن الأمر تكرر عفويا مع العديد من الأطفال، ربما بتأثير تحية العلم في المدرسة.
وشاهدت “فيديو” ” التقطه مواطن لسيدة تتابع فقرات الاستعراض في التلفزة وتنفجر بزغرودة حارة وهي ترى على قمة شاحنة الصواريخ من أظنه كان زوجها أو أخاها، وصورة أخرى لمواطنين بسطاء يبادرون بإعطاء قارورات المياه المثلجة لجنود استكملوا مرورهم أمام المنصات الشرفية، وكلها صور ولقطات أثبتت فشل التلفزة الجزائرية بكل قنواتها في القيام بمهمتها الإعلامية.
وأتصور أن شعبنا كان في حاجة لجرعة من الأمل في هذا الجو الذي أصبح الإحباط فيه هواءً نتنفسه، وبغض النظر عن أن هناك من راح يغمز ويلمز عمّا إذا كانت قوات الجيش الجزائري مستعدة لكي تضع ثقلها في المعركة ضد الكيان الصهيوني.
وعنصر المزايدة الرخيصة واضح هنا تمام الوضوح، فليس هناك من هو في حاجة للتذكير بالمعارك التي خاضها الجيش الجزائري على جبهة القتال إلى جانب القوات العربية، “عندما كان القتال قضية الجميع”، وليس هناك من يستطيع أن ينكر أن الجزائر كانت في طليعة كل التحركات السياسية والنشاطات الإعلامية التي تدعم الحقوق العربية، وبدون أن تطلب جزاءً أو شكورا أو تدّعي أنها رائدة الجميع أو قائدة الجموع أو بطل العروبة أو أمير المسلمين.
ومشكلتنا أننا نفعل ما نراه حقا وواجبا وبغض النظر عمّا قد يراه آخرون.
* – الوقفة الرابعة.
للعلم، ولمن يهمّه الأمر، الممر نحو إلى الأطلسي نكتة بائخة ومملة لم تكن يوما من أهداف الجزائر، التي ترتبط بالبحر الأبيض حضاريا واقتصاديا وسياسيا، والحديث عنه اليوم تضليل مؤسف، خصوصا إذا نُسِب لمراجع عليا.
والجزائر درست التاريخ وتعرف حكاية ممر “دانزيغ”.
* – الوقفة الأخيرة:
أتصور أنه ليس هناك من ينكر أن السقوط العربي بدأ بشكل عملي في نوفمبر 1977 بزيارة الرئيس السادات للكيان الصهيوني، والتي كانت كفعل الفأر في سد مأرب.
هنا أتذكر كلمات لعلها كانت إلهاما من المولى عز وجلّ للملك خالد بن عبد العزيز، الذي نقل عنه صحفي مصري كبير، لعله الأستاذ هيكل، قوله بأنه كان يدعو الله أن تسقط الطائرة قبل أن تحطّ في إسرائيل.