تلوُّث العقل العربي الشعبوية في مواجهة الرّشد شماتة المرزوقي وعلم كلامه الجديد/ ادريس هاني
24 ديسمبر 2024، 18:26 مساءً
والبداية من تفاعل أبي يعرب المرزوقي مع الحدث السّوري، هذه المرّة بعيدا عن المبادئ التعاقدية الكونية، بل بعلم كلام قديم قدم الملّة التي يهفوا إليها. فالشعب السوري في نظره سيعيد الشوكة والعصبية ويدشّن عصرا أمويّا جديدا بين تحدّي الفرس والروم، طبعا المكر بالمفهوم الكيدي سيعفينا من مواجهة إسرا..ئيل، فهي اليوم ستتكفل بتكلفة الحرب على إير..اان وروسيا، وفي النهاية: إنّ سقوط الأسد في نظر رائد العته السياسي والفلسفي، هو في مصلحة المقا..ومة الفلسطينية، وأيضا دخول تركيا في حرب مع إسرائيل ليس في مصلحتها. عن هذه الكآبة الأيديولوجية لن نفهم شيئا، لأنّ المغالطة هنا باتت لها أنياب، وكلّ شيء يمضي بسحر الميديا المتدفّقة التي باتت تشكل فائض قيمة التضليل.
حين يكون الموقف مبدئيّا، وليس ذُهانا متدفّقا على أوتوستراد مفتوح للتضليل والتبرير، نكون في وضعية تسمح لنا بأن نصيب أو حتى نخطئ بوضوح، لكن عصر التّفاهة بالفعل وضع الأطروحة ونقيضها على أضية مفاهيم مشتركة اختلط فيها المشحون منها والفاقد للشّحن.
يدرك المرزوقي بأنّ المسألة السورية تتجاوز كلّ هذا التبسيط، لأنّ مخرجات سبعة أيّام من باكور خلط الأوراق الإقليمية سيكون حارقا. فالحشود التي ملأت ساحة الأمويين كان أضعاف منها مؤيّدا للنظام يفيض على الساحة باتجاه المالكي والمزّة وربما يمتد ناحية جسر فيكتوريا، كان الشارع يهتز ولم يكن يومها أحد يضع سيف ديموقليس فوق رؤوس النّاس كي يخرجوا. إنّ الشارع في زمن الميديو-غالطة لم يعد مؤشّرا، لكن المفارقة تكمن هنا في تبديل الصورة النمطية للشرّ المطلق، فلكي نمحوا صورة نتنيا..هو من ذاكرة وجعنا القومي والإنساني، فليس أمامنا سوى حجب تلك الصورة ببشار القاتل، القاتل، القتل، حتى ينقطع النّفس من التكرار. هذا الإجماع الذي يفتعله التلفزيون ثم سرعان ما يصبح مصدر الإشاعة هو الجمهور، التضليل الإعلامي ولعبة المصدر كما أطنب في تحليلها أمبرتو إيكو، التكرار والعزف اليومي المؤسس للديماغوجية. في هذا الهذيان الميديائي هناك أشياء تترسّخ في الوجدان، وأخرى تختفي من الذّاكرة. في هذه الهمروجة ما هي العناوين التي اختفت وتخفّفت واندرست؟
إنّ الوعي يتجاهل خطورة لعبة الأمم. الإستهانة بمخاطر الاحتلال الذي أخرج سوريا من التاريخ ومن الجغرافيا السياسية وليلة الاحتفاء بالجولاني كان الاحتلال ينهي مهمّة تفريغ سوريا من كلّ قدراتها الدفاعية، سوريا الواعدة منزوعة السّلاح. علينا أن نراقب سلوك الجولاني، ونحتفي بأي كلمة تصدر من سليل القاعدة، في استهانة بالتاريخ السوري، وعقوبة للشعب السوري، وكأنّ مصير سوريا الديمقراطي تحدده إمارة إدلب النموذجية. من يا ترى يحاول الاستخفاف بمجد الشّام ويجعل من الدولة التي صُنِّفت كخامس دولة في الأمان، إلى عش دبابير تنذر بالحريق.
من باب التدقيق وخلافا لما يتم إشاعته في بعض الوسائط لأسباب أجهلها، لست صديقا لبشّار، لسبب بسيط، أنّ ذلك شرف لا أدّعيه، لم يكن ذلك متاحا ولكننا زرناه كوفود في مناسبات شتّى، وكنت حريصا على أن تكون أسئلتي له حقيقية. فهمي للطبيعة السورية ونسيجها الاجتماعي وأنماطها السوسيو-ثقافية ومزاجها السياسي يجعلني أقرأ الأمور بقليل من المبالغة وبكثير من الإنصاف. نظام على قدر من الصّلابة الأمنية، نتيجة تموضعه الجيوستراتيجي، بين أطماع الشّمال وأطماع الجنوب، وتيار انقلابي شديد على قدر من الصّلابة الانقلابية.
كانت هناك أولويات تقتضي من الحراك المطلبي عام 2011 أن يدرك أهمية الاستجابة للمطالب الاجتماعية من خلال إصدار مراسيم وزارية مهمّة، لكن سارت الأمور على طريق الرّفض الجذري وعسكرة الوضع بفتح سوريا أمام جماعات مسلّحة لها أجندات غير المطالب الاجتماعية، فبدأت القصّة، وانطلقت المؤامرة باسم الشعب الذي كانت أغلبيته مصدر استقرار، حيث تمّ تأجيل تنفيذ المخطط لأكثر من 13 عام. وسيتضح في الأيام القادمة بأنّ الشعب السوري هو اليوم المعني بإنقاذ كيانه من هذه المؤامرة التي سنفصّل في يومياتها أكثر، بعيدا عن تشويش الشعبوية وخلط الأوراق والمفاهيم. لكنني أحب أن أعود إلى منظّر الحراكات الثورجية المفصولة عن برنامجها الاجتماعي والثقافي، أعني أبو يعرب المرزوقي. هذا الأخير كما فعل بعض متكلمي الإخوان الذين بدكسوا معركة الوعي(من البودكاست)، فقالوا إن سقوط النظام السوري هو من تداعيات وفي صالح المقاا..ومة الفلسط..ينية والطوفان. وهذا يخالف رأي قادة المقاا..ومة في تمجيد موقف دمشق ودورها في المقاا..ومة، ثم إنّ التمكين الذي فرض تحوّلا في أداء المقاا..ومة كان بفضل دمشق. دفع الأسد نفسه ضريبة رفضه طرد الفصائل الفلسط..ينية من دمشق، هم يحاربونه بسبب عناده في عدم التوقيع، عدم الرضوخ، وعلى هذا الأساس سيمنحهم الجولاني ما لم يمنحهم إياه الأسد، مع فارق فلكي في القياس.
عدد هائل من المتقلّبين الذين أطلقوا العنان للخيال. اليوم الأسد لم يعد في المشهد، والمطلوب من الذين كرروا على مسامع العالم أنه لم يطلق رصاصة واحدة في الجولان، أن يطلقوا فقط نصف رصاصة وقد ضمّ الاحتلال الجولان وجبل الشيخ والقنيطرة ومرتفع القلمون وهو يتحرك في كل اتجاه، هذا في الوقت الذي يقول مؤسس النصرة، بأنّهم غير معنيين بالحرب مع الاحتلال، ويقدم الضمانات تلو الأخرى، فيما المشرف عليه التركي يعلن عن رفضه انتهاك التراب السوري وهو ينافسه في ذلك، بينما أبو يعرب المرزوقي يرى في مواجهة الاحتلال أمرا ليس في صالح العثمانية الجديدة، وأن إسرائيل هي من سيتولى محاربة الروس والإيرر..انيين، هذا بينما ليس في سوريا اليوم سوى قوات الاحتلال في الجنوب والانكشارية في الشمال والجماعات المسلحة المطعّمة بمتطرفين من الطاجيك والأزبكيين والشيشان.
يتحدث أبو يعرب كما لو أنّه خبير فعلا بما يجري في الشّام، ولقد زارها أياما ليس إلاّ، لا يتجاوز ممشاه البحصة أو البورمانة وربما مداخل المزرعة. لقد كان في ضيافة الإيرانيين، وشارك في ملتقيات مستشاريتهم قبل أن يظهر للناس عداءه المفرط لهم والمبالغ فيه، بل كان في إحدى الجلسات يعرض عليهم مشروعه طلبا للمساعدة، كان متملّقا، مدلّسا، جبانا.. هذا هو نوع الذين ما أن وقعت البقرة حتى كثرت السكاكين، وأظهروا نزعتهم الظلامية المتخفية خلف ألف مفهوم ومفهوم مقصوف الرّقبة.
حَقَد أبو يعرب على الشّام ومالأ العصملّلي، واعتبر الحلّ ليس في الديمقراطية بل في الأموية وعودة العثمانية. يكرهون الأسد لأنه رفض الجلوس مع الباب العالي، واعتزّ بسوريته وسيادة بلده، وهو بذلك خالف حتى حُلفاءه الأكثر مرونة، كان يؤمن بأنّ سوريا أكبر من أن تخضع للعثمانيين الجدد.
هي حرب أبعد مدى استعمل فيها شعار الشعب ذريعة، حيث سنرى في الأيام القادمة كيف سينقسم ويعبر عن اختلاف في الرؤية للدولة والمصير. إنّ سوريا أكبر من أن يُرهن مصيرها لمجموعة مسلحة تستعملها القوى الدولية والإقليمية وتتحكم في سيكولوجيتها عبر أساليب البرمجة واستغلال ما تنطوي عليه من مركب ستوكهولم وعقدة حقارة. فما كنا نخشاه على سوريا قد بدأ: سوريا ممزقة، ومجتمع سيتمزّق نسيجه الاجتماعي بشكل أكثر، وأفق مسدود، لكنّ في ثنايا هذا الشعب، توجد إرادات ستعيد تموضعها في معادلة الصراع، سوريا أقوى بشعبها الذي لن يرضخ للعبة الأمم وأدواتها، إنّها الشّام التي عبّر عنها سعيد عقل برائعته: رأيت مجدَكِ في قلبي و في الكُتُـبِ. شَـآمُ، ما المجدُ؟ أنتِ المجدُ لم يَغِبِ.
الذين سقطوا هم من يغير ملامح الشام اليوم، ويقوض هويتها، وينهب ميراثها الرمزي المجيد، من تحالف ذاتيا وموضوعيا مع الاحتلال. هذه الشام التي استُنزفت وهي اليوم جريحة، حيث التقت مصلحة خصومها جميعا في أن يهدموا قلعة صامدة، أن يدشنوا شرقا أوسط جديدا تزدهر فيه الجيو-تفاهة على قاعدة انمساخ السيادة والتّمرزُق الفكري (نسبة إلى أبي يعرب). في هذه الأيام ستشرئّب أعناق كثيرة، قبل أن يقول مكر التّاريخ كلمته وتنقلب الصورة مرّ أخرى، فلا تستعجلون..
ملاحظة: (الصورة مع ابي يعرب بمقهى الشام قبل كذا وعشرين عاما…)..