على هامش الزمن / إبراهيم سيداتي
لم يبقَ في داخلي ما يُستدرّ بالوجع…
جفت ينابيع الحزن، ونضب رصيد الدموع بعد نزفٍ مرير لا ينقطع.
ولدتُ بعد النكسة، في زمن كانت فيه السماء محشوة بالدخان،
والأرض تنهض متألّمة تحت وطأة الخيبات المتراكمة.
كانت ولادتي عسيرة،
وكأن الزمن ذاته قاوم قدومي إلى الحياة.
في قريتنا النائية (حاس أنبق)، في أقصى شرق بلاد المنارة والرباط،
كانت هناك قابلة عجوز، تتسلّح بالجرأة وبخبرة قروية متواضعة،
لا تعرف للقيصرية طريقًا،
ولا تحمل بين يديها سوى بعض الدعاء، موس صدئ، وقليلًا من الماء المغلي.
فجئتُ إلى الحياة، ذات يوم من أيام ما يعرف بردانة رمضان، كما تولد الأوطان حريتها:
تصرخ، تنزف، وتقاوم لتتنفس.
كانت بلادي حديثة عهد بالاستقلال، تحتاج لكل شيء… إلا للجهل، والمرض، والجوع، ونقص الكفاءات.
نشأتُ في فضاء بدوي شحيح بالغذاء والدواء، لم تملأه أرجوحة الطفولة بألحانها، ولا أنشودة الأمهات بدفء الصوت،
بل كان صوت المدافع وأنشودة الانكسار التي كنا نسمع عنها عبر إذاعات مثل “بي بي سي”، عبرراديو أب ولد عيسى وجدو ولد الطالب مصطفى رحمهما الله، وكأنها تحكي قصة شعبٍ غريب، مات منذ قرون.
أُصبتُ بجميع أمراض الطفولة، ولم أحتفل بعيد، ولم أحفظ نشيدًا وطنيًا،دون أن يتردد صداها بصدى الهزيمة في أذني.
مات عبد الناصر، وكنت صغيرًا لا أفهم معنى الموت لكنني رأيت الحزن يعانق عيون رجال ونساء حولي،
وكأن أمةً بأكملها دفنت ما تبقى من كرامتها معه.
في مرحلة الإعدادية، بدأنا نقرأ عن مؤتمرات: 1907، وباندونغ، وعصبة الأمم، والأمم المتحدة،
وعن مواقف رجال مثل عبد الناصر، وأحمد سوكارنو، والشيخ أنتا جوب، وموديبو كيتا، وشيخ توري، والأسد،
وأحمد بن بلة، ونهرو، وصدام حسين، وأكوامن كروما وجيليس أنيررى، والملك الحسن الثاني، والملك فيصل، والملك حسين…وعن المعسكر الشرقي والغربي.
قرأنا عن أحمد حسن البكر، وصلاح البطار، حسن البنا، وماركس، ولينين، وماو تسي تونغ،
وعن شعراء المهجر، والكُتّاب الأفارقة، والمفكرين الذين افتقدنا صوتهم.
لم تكن قراءتنا مجرد اطلاع، بل كانت سلاحًا نتهيأ به للنقاش وللتموضع في أحد الصفوف،
ولإبداء الرأي الواعي في وطننا الغالي.
كانت ساحات المدارس ميدانًا للنقاشات الحامية والوعي هو السلاح الأثمن، الذي لا يُصادر، ولا يُراقب، ولا يُقتل… إلا حين يكتمل نضجه.
في كل مرة يحدث انقلاب جديد، يتولد أمل بأن التغيير الحقيقي قد اقترب، لكن سرعان ما يتلاشى هذا الأمل حين تنجلي الأمور وتظهر الحقيقة: لا شيء تغير سوى الوجوه. المعاناة مستمرة—لا ماء، لا كهرباء، لا كرامة. الشعارات تتكرر، والطوابير تزداد، والشعب يعلق بين الخداع والصبر، بين الحلم واليأس، منتظرًا تغييرًا حقيقيًا لا يأتي.
في السبعينات اندلعت الحرب بين بلادي والصحراء الغربية
ثم اندلعت الحرب في الثمانينات بين العراق وإيران،
وفي كل مرة كنت أشاهد الأخوين يطعنان بعضهما بعضًا،
وهدر الدم لم يكن من أجل الأرض،
بل من أجل أوهام السيادة في زمن لا يرحم الضعفاء.
ثم جاءت بيروت،
انشطرت المدينة بين شرقٍ وغرب،
وانقسم القلب على ذاته.
دماء المخيمات، صرخات النساء، صمت العالم،
وقرارات أممية لا تُغني ولا تُسمن من جوع.
ثم جاءت حروب الخليج،
واحدة تجرّ أخرى،
وكل حرب كانت تسرق مني جزءًا من كياني،
حتى لم يبقَ مني سوى جلد يلتف حول عظام الحنين.
ثم ظهر ما سُمي بالربيع العربي،
ولم أرَ فيه ربيعًا،
بل رأيت أشجار الزيتون تُقتلع،
والبيوت تُهدم،
والأحلام تُحرق تحت شعارات براقة،
لا تُشبع جائعًا، ولا تُحرر أسيرًا.
وفي السابع من أكتوبر،
لم يكن التاريخ موعدًا فحسب،
بل كان فأسًا ومطرقةً،
دُق بهما آخر مسمار في نعش ما تبقى من روحي.
كأن الزمن قرر ألا يترك لي وطنًا،
ولا حتى جرحًا جديدًا…
كل الجراح قديمة، وكلها لا تزال تنزف.
يا لهذا الجسد…
كم حمل من خناجر الغدر،
وكم صبر على خيانة القريب،
قبل بطش الغريب.
كان أملنا كبيرًا في جامعة الدول العربية، والاتحاد الأفريقي، وعدم الانحياز، والكتلة الشرقية وغيرها،
لكن هذا الأمل سرعان ما بدأ يتلاشى…
عشنا مقتل أتشاوسيسكو وزوجته أمام أعيننا وعلى شاشة التلفاز وسقوط الاتحاد السوفيتي،
لتتوالى بعدها بعقدين من الزمن مصائد القادة:
قتل صدام، ومعمر القذافي وعالي عبدالله صالح،
وأُزيح عن الكرسي كل من حسني مبارك، وعمر البشير،
ودُفع إلى الفرار كل من بن علي، والأسد،
وضاعت الدول التي كانت تقود القاطرة،
وأصبح البقية عاجزين عن تقديم قطعة خبز.
سقطت تونس، وليبيا، والعراق، والسودان، وسوريا، ولبنان…
وسقطت العزة، والكرامة، والنخوة،
ولم يَأبَ السقوط إلا ما بقي في القلب:
لا إله إلا الله، محمد رسول الله
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إبراهيم سيداتي.