آراءموضوعات رئيسية
بين قراءتين… وبصيرة ثالثة / محمد ولد لحظانه

منذ صدور تقرير محكمة الحسابات لسنتي 2022–2023، تباينت القراءات حوله بين من رآه إنذارًا مقلقًا يكشف مدى تغلغل الفساد، ومن اعتبره مجرد سجل إداري لأخطاء يمكن تصحيحها في إطار التسيير الطبيعي للمسار العام.
القراءة الأولى، التي تبنّتها بعض الأصوات المعارضة، رأت في التقرير إدانة صريحة للمنظومة المالية والإدارية، مستندة إلى أرقام قيل إنها تجاوزت 400 مليار أوقية. غير أن هذا الرقم – رغم تداوله إعلاميًا – لا وجود له فعليًا في متن التقرير، الذي لم يركّز على حجم المبالغ بقدر ما ركّز على طبيعة الاختلالات ومنهجية التسيير.
أما القراءة الثانية – الأقرب إلى موقف الموالاة – فقد حاولت التقليل من خطورة ما ورد في التقرير، معتبرة أن ما رصدته المحكمة لا يتعدى سوء تسيير إداري يخلو من الطابع الجنائي، في ما يشبه التمهيد لقبول عقوبات إدارية مخففة تُغلق الملف بهدوء.
غير أن الحقيقة – في ضوء التقرير نفسه – أوسع من حدود الموقفين. فمحكمة الحسابات، وهي أعلى سلطة رقابية على المال العام، لم تكتب بلغة السياسة ولا بلغة المرافعة، بل بلغة الوقائع والتوثيق. ومن يقرأ التقرير بتجرّد يدرك أنه يتأرجح بين سوء التسيير البريء وسوء التسيير المتعمّد، بين الخطأ الإداري والسلوك الذي يقترب من خيانة الأمانة.
ولعلّ المثال الأوضح على ذلك ما ورد بشأن الصندوق الخاص للتضامن ولمكافحة كورونا، حيث اختلط الضعف الإداري بسوء النية في التصرف بالمال العام: من تجزئة الصفقات والتحايل على قانون الصفقات العمومية، إلى تغييرات غير قانونية في العقود، وصرف موارد خارج مخصصاتها. وهي ممارسات يصعب اعتبارها مجرد هفوات في التسيير.
وفي المقابل، فإن ملاحظات أخرى – مثل غياب لجان الاستلام وضعف الرقابة والأخطاء المحاسبية – تعكس قصورًا في الحكامة والتنظيم أكثر مما تعكس فسادًا مقصودًا.
من هنا، لا يبدو المطلوب الانحياز إلى قراءة ضد أخرى، بل تجاوزهما معًا نحو وعي وطني مشترك يدرك أن الفساد حين يتعلق بالمال العام لا يحتمل المزايدة ولا المجاملة. فحين تتحوّل المعارضة إلى محكمة ميدانية تصدر الأحكام قبل التمحيص، أو تنزلق الموالاة إلى تبرير أعمى باسم الولاء، تضيع الحقيقة بين التطرفين. والموقف المسؤول هو ذاك الذي يرى الخلل كما هو، ويواجهه كما يجب.
إن التقرير، بما حمله من معطيات موثقة، كفيل وحده بفرض مساءلة حقيقية، على الأقل في بعدها الإداري الصارم، لأن ترك الأخطاء دون عقاب واضح يرسّخ ثقافة الإفلات من المسؤولية ويُضعف ثقة المواطن في مؤسسات الدولة.
ومن هنا بالذات، يمكن قراءة تصريح فخامة رئيس الجمهورية يوم الأمس بشأن مكافحة الفساد بوصفه رسالة صريحة بأن زمن التساهل قد ولى، وأن ما ورد في التقرير لن يمرّ دون إجراءات وعقوبات. إنها إشارة قيادية تؤكد أن الإصلاح لن يكون شعارًا بل ممارسة فعلية.
وعليه، فليس من الحكمة أن ينزلق الخطاب الوطني بين تضخيمٍ يُخرِج الحقائق عن سياقها، ودفاعٍ يُفرغ المساءلة من معناها.
فحين يتعلق الأمر بالمال العام، ينبغي أن يصمت الاصطفاف السياسي ويعلو صوت الضمير الوطني.
فحماية المال العام لا تتحقق بالشعارات، بل بقرارات تُعيد الانضباط والهيبة إلى المرفق العام، وتربط المسؤولية بالمحاسبة.
والمحاسبة العادلة ليست انتقامًا من أحد، بل تصحيح لمسار دولة اختارت الإصلاح سبيلًا لا شعارًا.
محمد لحظانه.
القراءة الأولى، التي تبنّتها بعض الأصوات المعارضة، رأت في التقرير إدانة صريحة للمنظومة المالية والإدارية، مستندة إلى أرقام قيل إنها تجاوزت 400 مليار أوقية. غير أن هذا الرقم – رغم تداوله إعلاميًا – لا وجود له فعليًا في متن التقرير، الذي لم يركّز على حجم المبالغ بقدر ما ركّز على طبيعة الاختلالات ومنهجية التسيير.
أما القراءة الثانية – الأقرب إلى موقف الموالاة – فقد حاولت التقليل من خطورة ما ورد في التقرير، معتبرة أن ما رصدته المحكمة لا يتعدى سوء تسيير إداري يخلو من الطابع الجنائي، في ما يشبه التمهيد لقبول عقوبات إدارية مخففة تُغلق الملف بهدوء.
غير أن الحقيقة – في ضوء التقرير نفسه – أوسع من حدود الموقفين. فمحكمة الحسابات، وهي أعلى سلطة رقابية على المال العام، لم تكتب بلغة السياسة ولا بلغة المرافعة، بل بلغة الوقائع والتوثيق. ومن يقرأ التقرير بتجرّد يدرك أنه يتأرجح بين سوء التسيير البريء وسوء التسيير المتعمّد، بين الخطأ الإداري والسلوك الذي يقترب من خيانة الأمانة.
ولعلّ المثال الأوضح على ذلك ما ورد بشأن الصندوق الخاص للتضامن ولمكافحة كورونا، حيث اختلط الضعف الإداري بسوء النية في التصرف بالمال العام: من تجزئة الصفقات والتحايل على قانون الصفقات العمومية، إلى تغييرات غير قانونية في العقود، وصرف موارد خارج مخصصاتها. وهي ممارسات يصعب اعتبارها مجرد هفوات في التسيير.
وفي المقابل، فإن ملاحظات أخرى – مثل غياب لجان الاستلام وضعف الرقابة والأخطاء المحاسبية – تعكس قصورًا في الحكامة والتنظيم أكثر مما تعكس فسادًا مقصودًا.
من هنا، لا يبدو المطلوب الانحياز إلى قراءة ضد أخرى، بل تجاوزهما معًا نحو وعي وطني مشترك يدرك أن الفساد حين يتعلق بالمال العام لا يحتمل المزايدة ولا المجاملة. فحين تتحوّل المعارضة إلى محكمة ميدانية تصدر الأحكام قبل التمحيص، أو تنزلق الموالاة إلى تبرير أعمى باسم الولاء، تضيع الحقيقة بين التطرفين. والموقف المسؤول هو ذاك الذي يرى الخلل كما هو، ويواجهه كما يجب.
إن التقرير، بما حمله من معطيات موثقة، كفيل وحده بفرض مساءلة حقيقية، على الأقل في بعدها الإداري الصارم، لأن ترك الأخطاء دون عقاب واضح يرسّخ ثقافة الإفلات من المسؤولية ويُضعف ثقة المواطن في مؤسسات الدولة.
ومن هنا بالذات، يمكن قراءة تصريح فخامة رئيس الجمهورية يوم الأمس بشأن مكافحة الفساد بوصفه رسالة صريحة بأن زمن التساهل قد ولى، وأن ما ورد في التقرير لن يمرّ دون إجراءات وعقوبات. إنها إشارة قيادية تؤكد أن الإصلاح لن يكون شعارًا بل ممارسة فعلية.
وعليه، فليس من الحكمة أن ينزلق الخطاب الوطني بين تضخيمٍ يُخرِج الحقائق عن سياقها، ودفاعٍ يُفرغ المساءلة من معناها.
فحين يتعلق الأمر بالمال العام، ينبغي أن يصمت الاصطفاف السياسي ويعلو صوت الضمير الوطني.
فحماية المال العام لا تتحقق بالشعارات، بل بقرارات تُعيد الانضباط والهيبة إلى المرفق العام، وتربط المسؤولية بالمحاسبة.
والمحاسبة العادلة ليست انتقامًا من أحد، بل تصحيح لمسار دولة اختارت الإصلاح سبيلًا لا شعارًا.
محمد لحظانه.



