لما وصلت عمق الوادي الكبير، رأيت الطبيعة الصافية في أنقى صورها، وأمتع تجلياتها.. / المرتضى محمد أشفاق

مملكة الحرية، ومتنفس الكائنات وهي ترسم ببراءة، وبراعة لوحة الحياة الجميلة، لوحة التعايش والسلام..
نوق صفروات يقودها قعود أهدل المشفر والحاجبين، تتسلق بثقة متاريس الرمل الفستقي المتسلل بين أشجار الطلح والأراك..والهادية تقود القاطرة البقرية بهدوء وصمت وثبات..والأعنز تطارد الوهم في خفة وجشع، وكائنات صغيرة أخرى: حشرات، وعصافير، ونمل، تخوض المعركة بهدوء في إقبال، وإدبار، والتزام تام بسيادة كل طرف على حوزته، ومرتزقه..سرحت في رحلة تدبر وتأمل، وعشت لحظات متاع فريدة في هذا المشهد النقي الذي لم تلوثه أطماع الإنسان، و لا أحقاد الإنسان، ولا صراع الإنسان والإنسان …
قال الصرد للهديل: عجبت لصمود ظاهرة تأليه أهل هذه الديار للسلاطين، لم تغسلها سحائب الوعي الزائف، ولا مزاعم تطور أنماط الحكم في الحقب المتتالية..
نزع الهديل سيرا يثبت نظارتيه العتيقتين على عينيه الغائرتين وقال: أي بني صرد حدثني جدي عن أبيه قال: عندما تنتزع الإمارة بالقوة، تصبح سنة يسير عليها القوم كلما خطر لهم خاطر في حب الإمارة والتسلط، وصارت دولة بين الأقوياء،
ولا رأي للعامة في تغير السلاطين، فكلما استبدل الفريق قائدا بقائد باركوا الجديد، ولعنوا خلفه، وخونوه..
قالت نملة عجوز تسللت منهكة من جحرها: وكل سلطان مزاح لم يكن وحيدا في سلطانه، كان يستمد قوته من المحيطين به، والمطيحين به، من مسؤولي أمنه، وقواد جنده، وسادة حرسه وحراسته، هؤلاء جميعا شركاء في حقبته، صالحها وفاسدها، خيرها وشرها، في كل ما حصل فيها من خطإ وصواب، من عدل وجور، من أمن وخوف، السلطان لا يقف وحده، و لا يمارس سلطته إلا بحماية وسند من فريق شريك له في السلطة هم يده التي يبطش بها، وعينه التي يبصر بها، ورجله التي يمشي عليها، ولسانه الذي يخطب به، هم معه مشاركة، أو مباركة، أو إقرارا، أو صمتا، وتعلمون العلاقة بين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله، وإقراره، وسكوته على ما حصل أمامه..
و لأن الإنجاز فعل مشترك فليس معنى تغيير القائد أن تنشق الأرض عن جبل عرفة ليقف عليه شركاء السلطان فتتحات ذنوبهم، أو أن ينبجس من الرمل ماء زمزم يغتسلون به ويشربونه لينظفهم من مثالب السلطان وأوساخ حكمه…
رفع النسر الجريح رأسه، وجعل مرفقه على مخدة من جلود الضأن وقال:أيها القوم! يا سكان هذا الوادي الأمناء! أنا لست غبيا حتى أومن أن للجائع، والمعتر، والجاهل إرادة و هم عبيد العوز، وأرقاء المتنفذين..إرادة هؤلاء وليدة نكاح فاسد بين قوة مادية وقوة رجعية تعودت استغلال الشعوب بمواصلة صلاة الخوف والاسترزاق في محاريب السلاطين …
قالت النملة العجوز: أيها الناس لا يخدعنكم السلطان وجنوده، فهم فريق كفريق كرة القدم، عمله متكامل، هناك الهداف، ولاعب الوسط، والمدافع، وحارس المرمى؛ وإنجاز كل واحد من هؤلاء مرتبط بالآخر، فلا بد للهداف من مراوغ ماهر يصنع له ظرف التسجيل، ولابد لحارس المرمى من مدافع مستميت يساعد في صد الكرة عن الشباك، وهكذا فإن الهدف الذي يسجله عمرو يحسب للفريق كله، والهدف الذي يدخل في مرمى زيد يسجل على الفريق كله، ويكون النصر أو الهزيمة للفريق كله أو عليه..
نزل الهدهد في منتصف المجلس وقال: أراكم نسيتم وزراء السلاطين وهم في الغالب دمى ضعيفة لشخصيات كرتونية تحركها أصابع السلطان وأعوانه، عيانا وتارة من وراء حجاب…
قال الصرد والهديل: أيها النسر أشر علينا في من نوليه أمر هذا الوادي الجميل ليبقى في نقائه وطهره و صفائه..
قال النسر: يا قوم على سكان هذا الوادي أن يسلكوا فجا غير فج جارنا الإنسان، سيبقى حاكمنا في حجمه الطبيعي مخلوقا لا إلها، لا يفرح لمديح الرعية ولا يغضب لذمها، سنخالف رعية السلطان الإنسان التي تحتفل بعطاسه، وتعتبره إنجازا، وتستقبله كلما قام وقعد بصفوف الرجال، والنساء، والأطفال، والخيل والجمال، وأطنان القصائد وفنون المقال، ما دام يجلس على عرشه، يقلب شؤون البلاد من حال إلى حال، وتظل نخبها تتلقف خطاباته، وتسطر عليها الحواشي، والطرر شرحا، وإطراء، وتضخيما لأنها لم تتجاوز مستوى دواجن الملق المقصية في الحظائر الهامشية..
أما نحن فسنظل أحرارا ولو في وادي النسيان، لأنه خير من حكم الإنسان، وأطماع الإنسان، وصراع الإنسان مع الإنسان من أجل الجاه والسلطان…
المصدر: الفيسبوك – صفحة المرتضى محمد أشفاق.



