بين الشعر الفصيح والعامي.. “بوفمين”
إن نهضة الأدب تلك، لم تقتصر على الشعر العربي الفصيح، وإن كان عمود فقراتها، لكنها شملت في ثناياها الشعر الحساني (لغنَ) الذي يفترض أن يكون السابق والأعم في نفس الوقت. إلا أن كثيرا من الشعراء كان بلسانين أو “فمين”: مبدعا في “لغن” كما هو مبدع في الشعر الفصيح.
بل نجد شعراء “مزدوجين” لهم عناية وزهو باللونين الأدبيين معا؛ ولهم عليهما نفس الغيرة والرقابة النقدية. وإن كان أكثر هؤلاء من المتأخرين نسبيا. ومنهم محمد ولد ابنو الشقروي الذي يقول:
أتحسب لي في الشعر شبها ألم تكن * نظرت إلى مرويه في المهارق
فكيف أجارَى فيه وهو سجيتي * وآخذه من بين جيبي وعاتقي
ومعدنه فينا وعرصة داره * مجر عوالينا ومجرى السوابق
فمن كان مسطاع السباق فذا المدى * وها أنا ذا فلياتني بمُسابق!
ويقول أيضا:
ﮔـُولُ لَهْل المَوْزُونْ أنَّ * جُلْ اغنَانَ عَادْ امْعَانَ
مَلَكُوتْ المَوْزُونْ أنَّ، * ما مَشْتَرْكُ حَدْ امْعَانَ
ومنهم باباه بن ابتَّه الذي يقول:
نـﮔـْدرْ عن لَغْنَ نستغنً * بالشعرْ انَـﮔـدِرْ عَن شِعْرِ
باغنايَ نستغن، لغن * والشعرْ ألاَّ هُومَ سعْـرِ
إلا أن باباه تجاوز القدرة في الشعر وفي “لغن” كل على حدة، إلى الإبداع في مزجهما في سلك شعري واحد؛ كما في قوله:
مَانِ ﮔـايلْ عن مُورِ فالـﮔبلَ شاعِرْ * ذا عَروضٍ ومنطقٍ وبيان
ﮔـارِ للْفِيَ حَتَّ وامْحنْكِ فَاهمْ * لا يُبارَى شهمٌ طَليقُ اللسان
عندُ قدرَ اعْلَ بيْتْ اِﮔولُ مُحفَّلْ * مثل عِقدٍ مُفَصَّلٍ بالجُمان
شطْرُ لَوَّلْ حَسَّانِ مَتْوَاسِ جَامَعْ * مَعً حُسن الالفاظ حُسنَ المعاني
وِجِ واحدْ متْوَاسِ عَكْسْ امْعَ لَوَّلْ * عَربىّ لشطر حَسَّان ثان…
هاذَ مَا رَيْتُ غَيْرِ مَرْﮔبْ مُحَمَّدْ * مَن لِدَيْمَانَ يَنْتَمِي وَدَمَانِ
وكما يغار الشعراء على سلامة الشعر وأمنه من عدوه الأول عندهم وهو “اللحن”، فإنهم اعتبروا الوحش الذي يهدد لغن هو “التزحال”، وهو اختلال الوزن.
فالشعر الفصيح لا بد من وزنه أصلا في ميزان بحره، وإلا فلا يعتبر شعرا، ثم إن استقام وزنه يبقى اللحن عدوه المتربص به.
يقول غالي بن المختار فال البصادي:
أبَى الشعرُ إلا أن يكون ارتجالُهُ * عَزيزاً إذا لم ترْتَجِلْهُ رجَالُهُ
فكمْ جَال في ميدانهِ مُتَشَاعِـرٌ * يَرَى أنَّه سَهلُ السَّبِيلِ مَجالُهُ
فحادت به الألحان عَن صَوْب قَصْدِهِ * وألقتهُ فِي الجَفْرِ المُجَوَّخ جَالُه
ولشدة الحرج وخطورة العيب في اللحن و”التزحال”، كان جدار سور الشعر والموزون مرتفعا رهيبا، لا يقتحمه إلا من اطمأن إلى قدرته وقوته. بل ربما تقاصر الشاعر المقتدر عن قول الشعرين، احتياطا وإيثارا للسلامة. ومن السلامة فعل ذلك ولا تثريب عليه.
يقول محمد سالم بن محمد احمد الابييري:
امْنادمْ ما يُوزن لَـﮔـدْ * اشْبَهْ عَن لَغْنَ يسْتَغْنَ
لغْنَ مَاهُ فَرظْ اعْلَ حَدْ * مَاهُ لاهِ يُوزنْ لغْنَ
ومنه الـﮔـاف المشهور لأحمد بن محمد اليدالي:
حَدْ اسكتْ عَن ﮔـَوْلْ المَوْزُونْ * مَاهِ شَيْنَ غيرْ الِّ شَينْ
حَـدْ اﮔـُولُ مَاهُ مَوْزُونْ * وَلَّ مَوزُونْ اُلاهُ زَيْـنْ
محمد محفوظ أحمد