كتاب عرب
يوميات صائم: لا إكراه للناس/ محمد رياض العشيري
ما زلنا نعيش مع القرآن الكريم في عهده المكي، ونتدبر في اليوم آيات سورة يونس، وهي السورة الحادية والخمسون من حيث النزول.
في الآية الثانية من السورة نرى اتهاما قديما جديدا للنبي الكريم، وهو أنه ساحر. وتتساءل الآية، ما هو العجب في أن يرسل الله سبحانه وتعالى رجلا لينذر ويبشر الناس:
(أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم، أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا: ٢)
لكن جواب الكافرين كان مُعدا وسريعا:
(إن هذا لساحر مبين: ٢)
لأنهم لما لم يستطيعوا الطعن في شخص النبي الكريم، ولا في القرآن المجيد، لجأوا إلى إطلاق الاتهامات جزافا ليدرأوا هذا القرآن عنهم.
ولذلك كان رد فعلهم عند سماع آياته وهي تتلى هو رفضها دون تفكير. وطلبوا من محمد عليه السلام أن يأتي بقرآن غير هذا، أو أن يبدله بآخر، وكأنه هو الذي يكتبه.
(وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله: ١٥)
وما كان جواب محمد إلا بسطا للحقيقة التي يتغافل عنها مشركو مكة، ألا وهي أنه رسول يُوحى إليه ومكلف بمهمة، ولا يستطيع عصيان ربه:
(قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلى، إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم: ١٥)
وبذلك ينفي محمد عن نفسه افتراء القرآن، مؤكدا أنه ليس بساحر، بل هو “رجل” كُلف بمهمة اختير لها. وليتدبر هؤلاء المعاندون وليتفكروا: لقد لبث محمد بينهم أربعين عاما، إنسانا طبيعيا، ولم تظهر عليه أمارات أي مرض أو سحر:
(قل لوشاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به، فقد لبثت فيكم عمرا من قبله، أفلا تعقلون: ١٦)
(فمن أظلم ممن افترى على الله الكذب، أو كذب بآياته: ١٧)
ولما دحضت تهمتهم للنبي، ورُدّ مطلبهم، كشفوا عن حقيقتهم في مطلب آخر جديد. فهم ماديون لا يؤمنون إلا بما يرون أو يلمسون أو يسمعون، ولذلك طلبوا “آية” مادية غير القرآن، كناقة صالح مثلا:
(ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه: ٢٠)
ولكن رد الله عليهم على لسان نبيه الكريم كان مثبتا لبشرية محمد الذي لا يعلم الغيب وداعيا لهم في سخرية إلى مشاركته الانتظار:
(فقل إنما الغيب لله، فانتظروا إني معكم من المنتظرين: ٢٠)
ويتكرر في السورة حواران: خطاب الله تعالى لنبيه الكريم، وخطاب محمد لقومه. ولذلك تتكرر ألفاظ “قل”، و”يقولون”، و”قال”. وكم كان محمد أمينا على ما يوحى إليه، فلم يغير حتى لفظا واحدا، ولو كان “قل”.
ويدور خطاب النبي الكريم مع قومه حول ما يلمسون في حياتهم: من رزق الله لهم من السماء وفي الأرض، وما في أنفسهم من سمع وبصر، وما يرونه كل يوم من موت وولادة.
ويتطرق الحوار أيضا لاتهام المشركين له بافتراء القرآن، وتحديه لهم بأن يأتوا ولو بسورة مثله. وغالبا ما ينتهي الحوار بتكذيب قومه وعنادهم، ولطف رد فعل محمد معهم الذي يدع أمره وأمرهم لله تعالى.
ويصف الحوار كذلك كيف يتلقى مشركو مكة حديث محمد بلا مبالاة وسخرية، فلا يسمعون ولا يرون وكأنهم صم وعمي.
ويؤكد محمد عليه السلام دوما في خطابه لقومه أنه لا يملك ضرا ولا نفعا، وأنه مبلغ لرسالة كلف بها. وأحيانا ما يُطلب منه أن يتلو عليهم من قصص الرسل السابقين حتى يتعظوا، مثل قصة نوح مع قومه هنا في سورة يونس، وقصة موسى، وقصة يونس.
أما خطاب الله تعالى لنبيه الكريم عليه السلام ففيه دائما طمأنة وتثبيت له، بذكر ما لاقاه الرسل من قبله، وفيه أيضا دعم له بالحجة للرد على قومه. وفيه كذلك شد من أزره وسط ما قد يساوره من حزن على قومه، بسبب عنادهم ورفضهم للحق وإصرارهم على الباطل.
(ولا يحزنك قولهم …: ٦٥).
وهنا يبرز الصراع الذي يدور في نفس النبي الكريم، صراع بين حرصه وتفانيه في إبلاغ الدعوة لقومه، الذين يود لو آمنوا كلهم جميعا، وبين حرية الناس في أن يؤمنوا أو لا يؤمنوا، التي كفلها الله لهم.
(ولوشاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين: ٩٩)
ولذلك يأمر الله تعالى نبيه بأن يعلن للناس أنه لا يعبد ما يعبدون، لكنه لا يستطيع إكراههم على ما يعبد.
(قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني، فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله: ١٠٤)
(قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، وما أنا عليكم بوكيل)
وقد ينسل الشك أحيانا إلى نفس النبي – وهو بشر – في صحة ما يأتيه. لكن الله تعالى يأخذه بيده ويدله حتى يتيقن:
(فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك. لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين: ٩٤)
(ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين: ٩٥)
وتختتم السورة ببيان موجز معجز للنبي الكريم، يتلخص في مواصلة اتباع ما يوحى إليه، والاستعانة على ذلك بالصبر:
(واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين: ١٠٩)