كتاب عرب
يوميات صائم : بشرية الرسل / محمد رياض العشيري
تثير سورة يوسف لديّ بما تحتويه من صراعات بشرية وغواية وغدر وصبر وعَوْذ بالله تعالى، مسألة “بشرية الرسل” في القرآن الكريم. وهي قضية أساسية تركز عليها سور الكتاب وآيه، من بدايته إلى نهايته.
وقد يبعث اختيار الله تعالى لرجل من بين بني قومه لتكليفه بمهمة الرسالة، وإنشاء صلة بينه وبين الله بواسطة الوحي في أذهان بعض الناس أوهاما من القداسة يسبغونها على هذا الرجل المكلف. ويزداد خطر تقديس الرسول، وأحيانا تأليهه، إذا منحه الله تعالى القدرة على الإتيان ببعض المعجزات الخارجة عن نطاق قدرة بني البشر. ولذلك حرص القرآن المجيد في آياته على تأكيد بشرية هؤلاء الرجال المصطفين كافة في غير آية.
وتمثل تأكيد القرآن على بشرية الرسل في أمرين:
أولهما: بيان صفاتهم البشرية
وثانيهما: القصص القرآني
صفات البشر:
فهؤلاء الرسل جميعا رجال يختارون من بين أقوامهم: (فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون: المؤمنون ٣٢)
وهم مثل غيرهم من البشر يأكلون ويشربون، ويمشون في الأسواق: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق: الفرقان ٢٠)
وهم أيضا معرضون للموت أو القتل: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم: آل عمران ١٤٤)، وفي انقلاب أصحاب الرسول على أعقابهم، وعدم تصديقهم بموته إشارة إلى اعتقادهم، ولو إلى حين، أنه ليس بشرا عاديا. وكان في قولة أبي بكر – رضي الله تعالى عنه كما وردت في الأثر – عندما مات النبي عليه السلام تثبيت لقلوب أصحابه الذين أصابهم الذهول، عندما قال: (من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت).
فهم إذن بشر مرسلون (… قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا: الإسراء ٩٣).
وبشرية الرسل ذاتها دفعت بعض الناس – من الماديين الذين لا يتخيلون الرسول إلا ملَكا من الملائكة – إلى رفض رسالة النبي الكريم عليه السلام: (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا: الإسراء ٩٤).
وقد يكون وراء هذا الرفض، لو أنعمنا النظر فيه، غرور هؤلاء الرافضين الذين يتصورون أنفسهم أفضل بني جلدتهم، بما لديهم من ثراء وجاه وسلطان، فكيف تفوتهم الرسالة، ويكُلف بها بشر غيرهم. ولم يخفوا هذه الأثرة، بل قالوا بها صراحة: (وقالوا لولا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم: الزخرف ٣١). ورفض هؤلاء يؤكد مرة أخرى أهمية التركيز على بشرية الرسل، فهناك من لا يرونهم إلا ملائكة.
القصص القرآني:
رأينا خلال صحبتنا لسور القرآن الكريم كيف يروي الله تعالى على محمد عليه السلام قصص غيره من الرسل السابقين ليثبت به قلبه. فقد واجه هؤلاء الرسل – كما واجه محمد من قومه – عنادا وعنتا وعداء من أقوامهم، لكنهم صبروا وفازوا وعلت كلمة الله، ولم تكن عاقبة أقوامهم إلا الدمار والخسران. ولا شك أن هذا القصص عضّد قلب النبي الكريم خلال الدعوة، وفت في الوقت نفسه في عضد قومه الذين كانوا يسمعونه هو وأصحابه يتلون ذلك القصص.
بيد أن للقصص القرآني – في رأيي – هدفا آخر مهما، ألا وهو التأكيد على “بشرية الرسل” الذين تروي الآيات قصصهم. إذ إنهم جميعا بشر، عرضة لزلات البشر لأن فيهم نواقص البشر. لكن ما يميزهم – عليهم السلام – هو رباطهم بالسماء عن طريق الوحي.
فآدم عليه السلام عصى ربه: (وعصى آدم ربه فغوى: طه ١٢١) عندما أكل من الشجرة واستجاب، لأنه بشر، لغواية إبليس. لكن الله تعالى غفر له (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه: البقرة ٣٧).
وموسى عليه السلام قتل رجلا: (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه، فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه: القصص ١٥). فاستمالته العصبية لأنه بشر فناصر من ينتسب إلى شيعته وقتل الرجل الآخر. لكنه أدرك خطيئته: (قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين: القصص ١٥).
وسليمان عليه السلام فتنه حب الخيل، فهو بشر، فأخذ يستعرضها حتى غروب الشمس ونسي ذكر ربه والصلاة وأقر بذلك (فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب: ص ٣٣). وأمر بالخيل فردوها عليه (ردّوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق: ص ٣٣) فذبحها وقطع أرجلها تقربا لله تعالى.
ويوسف عليه السلام تعرض للغواية (وراودته التي هو في بيتها عن نفسه، وغلقت الأبواب وقالت هيت لك: يوسف ٢٣) وقد مالت نفسه قليلا، فهو بشر، لكن الله تعالى أنقذه (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه، كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء: ٢٤)، وقيل إنه رأى صورة أبيه فرجع عما همّ به.
وكانت أسر هؤلاء المصطفين الأخيار مثل غيرهم من بني البشر. فابنا آدم عليه السلام قتل أحدهما الآخر بسبب الغيرة. ووالد إبراهيم عليه السلام كان كافرا، ونوح عليه السلام رزق بولد غير صالح، ولوط عليه السلام كانت زوجته غير مؤمنة. ووقع أبناء يعقوب عليه السلام في الكذب والغدر بأخيهم.
وهكذا يجد من يتدبر قصص القرآن الكريم نماذج كثيرة مصورة لبشرية الرسل في نواح مختلفة، إذ يريد الكتاب المبين أن يلفتنا إلى هذه الطبيعة في الرسل حتى لا نقع في خطيئة تقديسهم أو تأليههم، ونغفل عن أنهم مختارون من بيننا، لكنهم يُوحى إليهم من السماء. فهم مربوطون بالسماء برباط الوحي، وهم في نقل هذا الوحي لا ينطقون عن الهوى. وهم من أجل نقل هذا الوحي وتبليغ الرسالة معصومون من كيد الناس ونكايتهم بحماية الله تعالى.