فى ذكرى رحيله… أين “المشير” من ثورة عبد الناصر
صادف الخميس أول أمس الذكرى السابعة والأربعين لوفاة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وغريب أمر ذلك الرجل، الذي ينتمي لقرية «بني مر» النائية في صعيد مصر، ومصدر الغرابة هو حضوره الطاغي في وجدان كثيرين وذاكرتهم.. وما زال الفقراء ومتوسطو الحال ومحدودو الدخل يتعلقون به، والأجيال الجديدة، التي لم تره ترفع صوره كلما واجهت أزمة أو بلاء أو حلت بها مصيبة. أليست هذه ظاهرة جديرة بالتأمل؟!
والانحياز إلى خطه وسياساته طبيعي من هؤلاء، ومن المفترض الاستفاده من تجربته بحلوها ومرها، وقد أرهق ذلك الحاضر الغائب أعداءه وأتعبهم، ولم تتمكن برامج الاغتيال المستمر لشخصه وسيرته وتاريخه من النيل منه، وما فتئت تعاند التاريخ، وقد تحطمت على صخرته حملات «الشيطنة» القائمة على مدار الساعة منذ ظهوره على مسرح السياسة العربية والدولية؛ في منتصف القرن العشرين. وها نحن نكتب عنه في ظرف استثنائي تمر به مصر و«القارة العربية» والعالم الذي أضحى صغيرا ومتصلا ومعروفا للناظرين.
ومن جاء بعد عبد الناصر؛ من السادات ومبارك، كانوا على النقيض، وساروا على خطاه بـاستيكة «ممحاة»، ويعتبر السادات الرئيس المؤسس لدولة «الاستبداد والفساد والتبعية»، ووضع «المشير» بصمته بـ«التأديب والانتقام والتضييق»، وزاد عليها التفريط وبيع الوطن بالقطعة لمن يدفع، وساءت الأوضاع المعيشية وانتقل حال المواطنين البسطاء ومتوسطي الحال ومحدودي الدخل من السيئ إلى الأسوأ. وإذا كان الأوروبيون قد اعتادوا في لقاءاتهم الصباحية الحديث عن الطقس، فحديث الصباح والمساء بين المصريين هو الأسعار وارتفاعاتها الصاروخية كل لحظة، وضيق ذات اليد والعجز عن تلبية الضروريات.
وأغلب «فِرَق الشيطنة» من المستفيدين من إنجازات عبد الناصر؛ وصلوا لأعلى المناصب واحتلوا مواقع متقدمة في السلم الاجتماعي والوظيفي؛ وزراء وسفراء وجنرالات ورجال مصارف ومقاولين، ولولا الانجازات ما نال أغلبهم ما أهله لوضعه الراهن، ولو استمرت الطبقة القديمة، لعاشوا أقنانا وأُجَراءَ؛ ما كانوا ليتنكروا لأصولهم، ويتمادوا في حرمان المواطنين من الفرص التي أتيحت لهم. ويصدرون قرارات الموت البطيء والحرمان التام.. والقضاء على مجانية التعليم، وتحويل الصحة والطب لتجارة وجزارة، في سبيل جمع الثروات والتفوق على الطبقات القديمة.
وهذه صورة رسمها ماهر عباس في صحيفة «الجمهورية» المصرية؛ كان طفلا صغيرا عند وفاة عبد الناصر: «أعيش في قرية صغيرة -منسية- لكن فيها خدمات صحية وتعليمية»، ويسأل؛ «لماذا عجزت الرأسمالية عن تطوير قلاع ناصر الصناعية في الحديد والغزل والنسيج والبترو كيماويات والسيارات؟ كيف غاب الإسكان الاجتماعي لتحل مكانه فيلات وقصور؟ واستوردنا العدس والفول والقمح واللحوم، وعجزنا عن استيعاب العمالة، وظهر لنا المعاش المبكر - سرطان - عصر مبارك. ولم يتطور التعليم وطغى التعليم الخاص كنموذج للفئة التي تنكرت لأصولها، وأصبحت مدارسنا وجامعاتنا مشاريع استثمارية، ونهش المرض أجساد المصريين وسط فندقة الطب وسقوط الفقراء من الحساب، والرأسمالية الجديدة تعالج في الخارج. اعتقد أن المتنكرين لتجربة ناصر ولأصولهم خريجو جامعات مصر، نجحوا فقط في الاستيلاء على أراضي الدولة ونهبوا الثروة وهربوها للخارج واحتالوا على صناعتنا بالخصخصة وفقد منتجنا الوطني قدرته التنافسية والريادة في إفريقيا وآسيا»..
صورة أخرى رسمتها أميمة كمال في صحيفة «الأخبار» المصرية بعنوان: «هكذا تكلم ساويرس» وكان رأي ملياردير «الليبراليين الجدد»؛ في عبد الناصر أنه تحكم في الأرزاق وقال عن نفسه: «أن الله يوزع الأرزاق، وهذا رزقه (أي ساويرس) الذي أراده الله له». وتستطرد كمال؛ أننا لم نعتد من ساويرس الاستناد إلى التأويلات الدينية لتفسير ظواهر سياسية واقتصادية، خاصة أنه كان من أشد المعارضين لنظام محمد مرسي الذي كان يستند لسلطة دينية تعتمد مثل تلك الأقاويل. وما دام مقتنعا بأن الله يوزع الأرزاق، فلماذا لم يصدق أن الله كان يريد أن يقتطع جانبا يسيرا من رزق عائلته، وهو 7 مليارات جنيه، قيمة ضرائب طُلبت من شقيقه «ناصف»؛ مستحقة على أرباح حققها من بيع إحدى شركاته في البورصة، وربح فيها المليارات.
ونجحت العائلة بالفعل في استرداد المبلغ»!! وسألت كمال: لماذا وقف مستميتا ضد فرض ضريبة على الأرباح الرأسمالية التي يحققها المستثمرون في البورصة، ونجح هو وأصحاب المصالح والنفوذ في إسقاط تلك الضريبة التي وصفها «صندوق النقد الدولي» بالعادلة. وهذه بالإضافة للسياسات الأخرى والضريبة التصاعدية، أو زيادة فاعلية الضرائب العقارية أو الضرائب المقترحة على تسقيع الأراضي أو اقتطاع جانب من دعم الصادرات لرجال الأعمال؛ كلها سياسات كفيلة بتوزيع عادل للأرزاق، إلا أن السيد ساويرس وأقرانه وقفوا دوما ضد تلك السياسات، ولم يقل أحدهم إنه ربما أراد الله أن يوزع مزيدا من الرزق على الفقراء»!!.
ونأتي إلى مصيبة كبرى؛ هي تصفية جهاز الدولة، ويقترب من سبعة ملايين موظف، ويسعى «المشير» إلى خصخصته، وبيعه، والتخلص من ثلاثة ملايين موظف خلال ثلاث سنوات؛ بإحالتهم للمعاش المبكر، ومنع التعيين بالحكومة وقصره على القطاع الخاص، وفصل الموظفين الموضوعين على قوائم الإرهاب، وإخضاع غيرهم لتحليل المخدرات، وإنذارهم مرة واحدة ومن لم يستجب يفصل من العمل لـ«تنقية» الدولة من المدمنين.
وإبان حكم عبد الناصر كان المحكوم عليهم في جرائم سياسية تُصرف لهم مرتباتهم، وبعد تنفيذ العقوبة يعودون لأعمالهم،وتحسب لهم أقدميتهم وعلاواتهم وترقياتهم. ومن مدة كتبت عن مخاطر «خصخصة الدولة»؛ مستشهدا بجهاز الدولة البريطاني الرأسمالي، ويبلغ عدد سكانها خمسة وستين مليون نسمة، وجهازها الحكومي يزيد عن ستة ملايين موظف، ومصر تقترب من مئة مليون نسمة وموظفوها أقل من سبعة ملايين.. وكم سيضيف هذا القرار إلى جيش البطالة؟، ويقول قائل إن الموظفين لا يعملون، والفساد ينتشر بينهم، وهو محق، لكن أن يكون بديل الإصلاح والمعالجة والتطوير هو «التأديب والانتقام والتضييق» وإلغاء جهاز حكم لدولة هي الأقدم، وجهازها أهم عوامل استمرارها وتماسكها.. لكن «المشير» أخذ على عاتقه تطبيق مشروع جمال مبارك باستبدال البنيان السياسي لدولة بهيكل تجاري لـ«شركة قابضة».. لا تحتاج لشعب ولا لساسة، ويديرها موظفون للمال والتسويق والعلاقات العامة والسمسرة والمضاربة والمقاولات!!
وذلك له علاقة بلقاء «المشير» ببنيامين نتنياهو، وخطابه الذي ساوى فيه بين الجلاد والضحية؛ مطالبا الضحية بالاستسلام لقاتلها!، ويدعو القتلة إلى الوقوف وراء قيادتهم، وذلك منطق يتبناه إعلام التطبيع، الذي يحض على كراهية الفلسطينيين، ودعم الاحتلال والفصل العنصري.
ألا يدل ذلك على الفشل الذريع والعجز المريع، ولا يجد «المشير» أمامه غير بيع مصر بالقطعة.. وهذا يشهد بسلامة خط عبد الناصر؛ ذلك الحاضر الغائب، ووضوح موقفه ووطنيته..
هذا بعض ما يمكن قوله؛ في وقت تتهيأ فيه «الأجهزة السيادية» لأكبر تزوير متوقع لانتخابات الرئاسة بعد شهور؛ متناسية انتخابات أحمد عز في 2010 التي أسقطت مبارك وولده؛ بفحش التزوير وصلف الغرور!!.
٭ كاتب من مصر
237 تعليقات