بوتين أصبح الحاكم الفعلي للشرق الأوسط الجديد../ عبد البارئ عطوان
يُفاجِئنا فلاديمير بوتين، رئيس روسيا الاتحاديّة، بين الحِين والآخر، بإنجازاتٍ سياسيّةٍ ودُبلوماسيّةٍ وعسكريّةٍ، تُؤكّد قُدراته القياديّة، ووجود أجنداتٍ واضحةٍ لديه، في مُعظم ملفّات مِنطقة الشّرق الأوسط، السّاخنة مِنها والباردة على حَدٍّ سواء، والمَلف السّوري الشائك على رأسها.
فبَعد النّجاح المَيداني الكبير الذي حقّقته تدخّلاته العَسكريّة الحاسمة في الأزمة السوريّة، بوَقفٍ كاملٍ تقريبًا لوقف إطلاق النّار، وتأسيس أربع مناطق خَفض التوتّر، وإطلاق مَنظومة آستانة التي جَمعت قادة الفصائل المُقاتلة على الأرض مع مُمثّلي الحُكومة السوريّة، ها هو يُفاجئنا بتطوّرٍ آخر لا يَقل أهميّة، وهو توجيه الدّعوة إلى أكثر من 33 فصيلاً وتكتّلاً سياسيًّا وعَشائريًّا للمُشاركة في مُؤتمرِ حِوارٍ وَطنيٍّ شامل في مُنتجع سوتشي الرّوسي على شواطئ البحر الأسود يوم 18 تشرين الثاني (نوفمبر) المُقبل، لدراسة، ووَضع الخُطوط العَريضة لدستورٍ سوريٍّ جديدٍ يُحدّد ملامح سورية المُستقبل وهَويّتها، ويُرسّخ أُسس التّعايش والمُشاركة في مُختلفِ أطيافها المَذهبيّة والعِرقيّة، ويُؤسّس لنظامٍ سياسيٍّ جديدٍ يتضمّن الإصلاحات المُنتظرة.
***
الدّول الثلاث الرئيسيّة: إيران وتركيا وسورية وافقت دون تردّد على هذهِ الخُطوة وباركتها، وهذا يعني أن جميع الأطراف الفاعلة والمُؤثّرة في الأزمةِ السوريّة، تتبنّى خريطة الطّريق الروسيّة، وتُريد إنجاحها، بل وإزالة أيّ عَقباتٍ مُمكنةٍ من طَريقها.
تركيا على سَبيل المِثال رَفعت “الفيتو” الذي كانت تَفرضه دائمًا على أيِّ مُشاركةٍ، أو حُضور، لوحدات حماية الشّعب الكُرديّة، التي كانت تعتبرها “إرهابيّة”، وتُشكّل تهديدًا أمنيًّا على حُدودها، ولم تَعترض مُطلقًا على تَمثيلها في المُؤتمر الشّعبي المُقبل الذي ستَشمل فيه كل الطّوائف والمَذاهب والأعراق والأديان دون أيِّ استثناء.
انعقاد هذا المُؤتمر، وفي غُضون ثلاثةِ أسابيعٍ من الآن، وبعد اختتام الجَولة السّابعة من مُؤتمر آستانة، يُؤكّد أن الحَسم العَسكري على الأرض في سورية قد تَحقّق، والآن بدأت المرحلة السياسيّة، مرحلة المُصالحة الوطنيّة، التي تُعتبر نُقطة الانتقال الأساسيّة لمَرحلة الاستقرار، وبِدء مَسيرة إعادة الإعمار بالتّالي.
مَنظومة مُؤتمرات جنيف الأمريكيّة “نَفقت” رسميًّا”، وانطوت صَفحتها، وتَجاوزتها الأحداث، وكل اللاعبين فيها، وهذا المُؤتمر في سوتشي هو البَديل، وجميع البَدائل الروسيّة نَجحت على أنقاض فَشل نَظيراتها الأمريكيّة المَدعومة عربيًّا.
الدّولة السوريّة رَبِحت الحَرب استراتيجيًّا، والرئيس بشار الأسد باتَ مُتربّعًا بكُل ثِقَةٍ على قمّتها، ولم يَعد أحد يَجرؤ على مُطالبته بالرّحيل، والجيش السوري الذي قادَ معركة الصّمود لما يَقرُب من السّبع سنوات، يُشكّل طَوق الحماية لهذهِ الدّولة وقيادَتِها وشَعبِها.
كل هذهِ الحَقائق التي تَفرض نفسها على الأرض بقوّةٍ، ما كان لها أن تتحقّق لولا دَهاء الرئيس بوتين، ومُسارعته لنُصرة حُلفائه، وتضحيته بالكثير من قياداته وجُنوده في ميادين القِتال، وتشكيله التّحالفات السياسيّة والعَسكريّة القويّة الفاعلة، ولم تُرهبه واشنطن وأساطيلها مُطلقًا، وأثبت عَمليًّا مَدى دِقّة مُخطّطاته وصَوابِها حتى الآن على الأقل.
الرئيس بوتين أصبح هو الحاكم الفِعلي وعن جَدارةٍ لـ”الشرق الأوسط الجديد” الذي صاغه على أنقاض الولايات المتحدة الأمريكيّة ونُفوذها، الذي استمرّ دون مُنازعٍ لاكثر من أربعين عامًا، مِثلما باتَ هو صانع القرار، ولكن بالتّشاور مع حُلفائه الذين وثَقوا بِه ووثِق بِهم.
***
طابور المَسؤولين القادمين، سواء من دُول الجِوار، أو من مُختلف أنحاء العالم أمام قصر المُهاجرين في دِمشق لتطبيع العلاقات يزداد طُولاً وأهميّة وزَخمًا، فـ”السبعيّة السّوداء” تَلفظ أنفاسها الأخيرة، لتَحلّ مَحلّها مرحلة من الأمن والاستقرار النّسبي، تَنتقل فيها الدّولة إلى أولويّاتٍ أُخرى جَرى وَضعها جانبًا، وأبرزها إعادة ترميم هياكلها ممّا لحق بِها من أدران بسبب سنوات الحرب الصّعبة، والالتفات إلى المُواطن واحتياجاته الأساسيّة، وأبرزها العدالة الاجتماعيّة، والمُشاركة في الحُكم على أُسسٍ ديمقراطيّة، أو هذا هو المُفترض والمُتوقّع.
لم نُبالغ مُطلقًا عندما قُلنا في هذا المَكان، وأكثر من مرّة، أن سورية تسير بخَطواتٍ سريعةٍ على طريق التّعافي، وعَودة الحياة الطبيعيّة، ولو في حُدودها الدّنيا، ليس لأننا نَقرأ الطّالع، وإنّما لأنّنا نَقرأ التّاريخ ونَستوعب دُروسه، بشكلٍ مَوضوعيٍّ بعيدًا عن الأهواءِ والمَصالح.
من حقِّ هذا الشّعب السّوري العَريق الأصيل أن يَلتقط أنفاسه، وأن تُحقَن دِماء أبنائه، وأن يَتنعّم بخيراتِ بِلاده، وما أطيبها، ونحن على ثقةٍ أن سورية الجديدة، وبفَضلِ هذا الشّعب وقُدراته الخارقة الجبّارة سَتكون أجمل.. والأيّام بيننا.
435 تعليقات