عن الليلة والبارحة وابن خلدون / بدي ابنو
1
ا- لنأخذ كمثالٍ مباشر : رئيساً أو عضو حكومة أو فاعلا سياسيا يمارس الفعل السياسي الميداني يوميا. من السهل عليه أن يسقُط في فخّ توهّم “الفهم” : من السهل أنْ يتوهم أنّه “يفهم” تلقائياً الحدثَ لأنه هو من يمارسه.
ب – لنتأمّل مثالا ثانيا : وليكنْ هذه المرة عن الممارسة الاعتيادية للعملة النقدية التي تمثّل جزءا من يوميات كلٍّ منْ يعيش راهنياً أيّا يكنْ مستواه التعليمي والاقتصادي. كلٌّ منّا يَستخدمُ يوميا تقريبا وحدات نقدية قليلة أو كثيرة، مثلا من عملة البلد الذي يوجد فيه بشكل دائم أو مؤقت. ويمكن لأي منّا أنْ يتوهم أنَّ استخدامه اليومي للعملات النقدية أو لغيرها من وسائل التعامل النقدي تجعله يمتلك تلقائيا بحكم التجربة اليومية والمستمرة عبر السنين فهمًا للمنطق الفعلي للعملة أو للعملات التي يَستخدم، فيَتوهم مثلا تبعا لذلك أنه لا يحتاج إلى عناء البحث عن اكتساب الأدوات العلمية لتحليل وفهم ظاهرة العملات أي الظاهرة المالية النقدية.
-2-
بعبارة أخرى وكما أسهبتْ في ذلك الأدبيات المنهجية قديما وحديثا فإنَّ الممارسة العملية ليستْ كافية علميا (وإن كانت في بعض الميادين لازمة). تمامًا كما أنَّ المعرفة ليست دائماً كافية (بالمعنى المنطقي) للممارسة وإنْ كانت المعرفة شرطا لازما (على الأقلّ لمستوى معين منْ الممارسة).
واستطرادا، هذه الثنائية العتيقة لم تكن يوما أجنبية على التقاليد الكلاسيكية عند المسلمين. وقد نوقشتْ جوانبُ كثيرة منها تحتَ عناوين مختلفة أشهرُها عنوان: العلم والعمل (وليسَ طبعا سؤالُ الإرجاء في دلالاته العقيدية والسياسية إلّا لحظة من لحظاتها). بهذا المعنى يمكنُ أنْ يضاف السياسيون – باستخدام المصطلح الاعتيادي- مفارقيًا إلى القائمة الخلدونية لمنْ تُـبْعدهم “الملَكاتُ” ـ التي اكتسبوها في ممارستهم المهنية اليومية ـ عن القدرة على فهْم السياسة، أي على فهم الاجتماع السياسي. و”السياسيون” يضافون هنا لأسباب قد تكون مقابلة أو مناظرة لتلك التي تجعلُ، حسبَ نفسِ المؤلِّف، “العلماءَ” أبعد البشر عن السياسة (المقدمة، الفصل الثاني والاربعون: “في أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها”).
-3-
إذا أخذنا على محمل الجدّ التمييزَ المتداول في العقود الأخيرة بين التاريخوية والتاريخانية أي التمييز بين أحداث التاريخ منظورا إلى كلِّ واحدِ منها كمعطى مفرَد خاصٍّ في ظروف وأوضاع خاصة (التاريخوية) وبين أحداث التاريخ منظورا إليها كعناصر في أنساق كلية (التاريخانية)، فكيف ينزاح ابن خلدون من التاريخوية إلى التاريخانية والعكس؟ طبعا يمكن أن يستبعد هذا السؤال الأخير باعتباره لا تزمينيا (anachronistic). فهو ينطلِق من تمييز مفهومي يُفتَرضُ أنّه لمْ يكنْ موجودا بهذه الطريقة في فضاء المعاني الذي تصدرُ عنْه “المقدمة” الخلدونية. وهذا بداهة اعتراضٌ مشروعٌ على الأقلّ بنسبة معينة.
-4-
غير أنّ الأفقين الذين وُضعتْ هاتان الأداتان المفهوميتان، التاريخوية والتاريخانية، للتمييز بينهما هما أفقان حاضران بقوة في المقدمة وفِي مجموع تاريخ العبر كما في كثير من الأدبيات التواريخية القديمة. بلْ إنَّ فحصَ الإشكاليات المنهجية التي يطرحانِها هو أمرٌ حاضرٌ في تلك الأدبيات أيضا بنسبة معتبرة. فمعروفٌ أن التاريخوية، بالتعريف، لا يمكن أن تُشبِّهَ “الليلة” بـ “البارحة”. وطبعا فإن التاريخانية من جهتها لن تقترب من عبارة “ما أشبه”. ولكن بالمقابل تَنظرُ التاريخانية إلى “الليلة” و”البارحة” كنموذجين محكومين بإطار أعمّ مستقلٍّ طبعا إلى حدٍّ كبير عن زمنية “اليوم والليلة”.
-5-
هل كان ابن خلدون متناقضا مع منهجه الرئيس حين سخرَ من تسرّعِ منْ سماهم العلماء في ممارستهم للاستقراء وميلهم المهني التلقائي بحكم “ملكاتهم الصناعية” كعلماء إلى التعميم والتجريد أي إلى صياغة قواعد عامّة لفهم السياسة؟ بعبارة أخرى هل كان صاحبُ المقدمّة -، إذا قرأناه بشكل لا تزميني – يمارسُ نوعاً من “التبشير السابق لأوانه” ببعض أطروحات من سيُعرفون في ألمانيا القرن التاسع عشر بالكانتيين الجدد، وبشكل خاص فيما يتعلق برفضهم للطبيعة التقنينية التعميمية للعلم ؟ صحيحٌ أنَّ ابنَ خلدون هاجمَ، كابن تيمية وكمنظري المنهج العلمي الحديث (غاليليو وبيكون وديكارت إلخ)، بشدّة المنطق النزولي الاستنتاجي الأرسطي. ولكنْ صحيح أكثر (وهو الأهم هنا) أنه يزيد على ذلك بمستوى ما من نقد المنطق الصعودي الاستقرائي على الأقل كما يوظّفه – في محاولة فهم الظواهر السياسية – من يسميهم بالعلماء (أحيانا لا يبدو ابن خلدون في هذا المستوى أقلَّ راديكالية مما سيقوم به ديفيد هيوم ضد الاستقراء).
-6-
كيف يمكن إذا أنْ نفهم نقد صاحب المقدّمة للاندفاع “التلقائي” لمن يسميهم بالعلماء نحو الاستقراء أي نحو صياغة قواعد كلية للظواهر السياسية الاجتماعية؟ كيف يمكن خصوصا أن نفهم ذلك إذا تذكّرنا أن كل أسس المنهج الخلدوني تقوم صراحةً وضمنًا على الاستدلال الاستقرائي (قياس الاستقراء بتعبير القدماء)؟ طبعاً يوجد في المقدّمة ما يمكن أنْ يجيبَ جزئياً على هذا السؤال. وليستْ هذه النقطة على كلِّ حالٍ هي المفارقة المنهجية الوحيدة في النسق الخلدوني. ففيه مفارقات متعددة إذا ما فُحصتْ تزامنيا بجدّية فإنّها قد تكشف النواة الصلبة للتراكمات التي بَنَى عليها ابن خلدون نسقَه. والأهمّ من وجهة نظرٍ معاصرة أن هذه المفارقات إذا ما قُرِئتْ بالأدوات المنهجية الراهنة فإنها قد تسمح لنا بفهم أعمقَ نسبيا، في مستوى ما، للفرضية الثورية التقليدية: “التاريخ يتمتع دائماً بخيال أكثر خصوبة من الإنسان”.