كتاب عرب
قراءة في خلفيات ازمة زمبابوي/ عبد الرحيم الفارسي
– 14 فبراير عام 1980
امتلأت شوارع سالزبيري، عاصمة روديسيا، بالمواطنين الذين خرجوا للاحتفال بحصول حزب وطني يمثل تطلعاتهم على 57 مقعدا برلمانيا متقدما بمسافة طويلة عن منافسيه.
في تقرير تلفزيوني بثه برنامج Newsnight الاخباري بقناة بي بي سي مساء ذلك اليوم، وهو موجود على موقع يوتيوب، تجد تصريحات لعدد من الشباب الذين رأوا في تلك النتيجة مقدمة لتحقيق “الديمقراطية والتعددية الحقيقية والمساواة ووالازدهار الاقتصادي وتوفير فرص العمل لغالبية السكان”.
18 نوفمبر 2017
امتلأت شوارع وسط مدينة هراري، عاصمة زمبابوي، بمواطنين خرجوا للمطالبة بتنحي الرئيس روبرت موغابي، الذي بقي في السلطة لأكثر من 37 عاما.
في الشارع صرخ عدد من الشباب والشابات الذين يغمرهم الأمل بآفاق اقتصادية مغايرة بعد أن خلت المتاجر من المواد الأساسية وارتفع التضخم إلى مستويات خيالية منذ عام 2008.
في التاريخين كليهما خرج الناس مبتهجين/غاضبين من شخص واحد: روبرت موغابي.
هذا الرجل كان من الزعماء الذين قادوا الغالبية السوداء في روديسيا سابقا، زمبابوي حاليا، نحو التحرر من هيمنة الأقلية البيضاء ومن نير الاستعمار البريطاني.
ومثلما غصت شوارع ساليزبري سابقا، هراري حاليا، بنجاحه، فهاهي ذي تصرخ طلبا لتنحيه عن السلطة.
من يعرفون تاريخ الرجل لا يترددون في الاشادة بمواقفه الصارمة من الأنظمة العنصرية في جنوب افريقيا وناميبيا وبقية بلدان المنطقة.
ومن يقارنون بين الغالبية الافريقية حين حصلت زمبابوي على الاستقلال، وما هي عليه حاليا، سيعترفون رغم أنفهم بأن هذا الرجل الذي اشتغل في التدريس قبل المزاوجة بين النشاط السياسي والعمل العسكري في سبعينيات القرن الماضي، قد مكن نسبة تفوق تسعين في المائة من أبناء شعبه من تعليم مجاني وجيد. يكاد بلده يكون الأول من حيث تراجع معدلات الأمية في القارة.
ومن لديهم كرهٌ للاستغلال الذي نهجه كثير من أفراد الاقليات البيضاء التي أتت مع الاستعمار الأوروبي، سيجدون في روبرت موغابي محقق تلك الرغبة الدفينة في انتزاع الاراضي الخصبة الشاسعة منهم واعادة توزيعها على الغالبية الفقيرة المعدمة.
إذن هذا الرجل حقق لشعبه ما لم يحققه الراحل نلسون مانديلا، رمز التحرر الافريقي والانتصار الهادئ على نظام الفصل العنصري، ابارتهايد.
فموغابي أعاد توزيع الاراضي بعد ان اجبر الكثير من البيض في عام 2000 على الهرب خارج البلاد فرارا.
إلى هنا تبدو الأمور جميلة في عيون الحالمين الرومانسيين.
لكن لنعد قليلا الى الوراء.
في السبعينيات انتفضت الغالبية السوداء ضد استحواذ الاقلية الاوروبية على مفاصل الاقتصاد، وتحكمها في السياسة بعد اعلان ذوي الأصول الأوروبية الاستقلال من جانب واحد عن بريطانيا عام 1965 ، واقامة جمهورية روديسيا.
توزعت قيادة السود بين حركتين أساسيتين، الأولى تنضوي تحت لواء (الاتحاد القومي الافريقي لزمبايوي- الجبهة الوطنية ZANU-PF) بقيادة موغابي، و(الاتحاد الافريقي لشعب زمبابوي ZAPU) بقيادة جوشوا نكومو.
ورغم تقارب الأهداف بين الحركتين، فإنهما مختلفتان من حيث العدد والاديولوجيا والانتماء الإثني.
يتشكل الشعب الزمبابوي من مجموعتين عرقيتين كبيرتين، الأولى والأكثر عددا تسمى الشونا Shona ، ومنها ينحدر موغابي وغالبية قادة زانو-پي اف. وتأتي بعدهم مجموعة انديبيلي Ndebele التي ينحدر من صفوفها قادة ZAPU. لقد حارب مقاتلو المجموعتين في سبعينيات القرن الماضي جنبا إلى جنب في الأدغال ضد قوات الأقلية البيضاء التي كانت حينها مدعومة بنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا المجاورة.
لكن بعد استقلال زمبابوي ووصول موغابي الى الحكم في أبريل عام 1980، بدأت الأحقاد بين المجموعتين في الظهور، سيما وأن حزب موغابي تبنى سياسة ماركسية رغم حديثه المتواتر عن انتهاج سياسة عدم الانحياز لأي من قطبي العالم حينها: الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة.
شهد عاما 1982 و1983 حملات قمع شرسة ضد أبناء المجموعة العرقية انديبيلي، الذين اتهموا بالتمرد و”خيانة الثورة” والانحياز ل”الرأسمالية”. تهمة التخوين هذه كانت تلصق على نطاق واسع إبان حرب الأدغال بكل مواطن أسود يرفض الانضمام للمقاتلين، أو كل من تحوم شكوك حول احتمال ولائه للبيض. وبالمناسبة استخدمت قبلهم وبعدهم عدة حركات تحررية وانفصالية في افريقيا وغيرها التهمة ذاتها أو ما يشبهها ضد مخالفيهم.
انتهت حملة قمع أبناء شعب انديبيلي بمقتل الآلاف واعتقال عشرات الآلاف دون أي محاكمة.
لكن هل من فاضح لهذه الحملة على الصعيد الدولي؟.
لقد كانت الدول الغربية تتابع عن كثب هذه الممارسات، لكنها لم تستطع تحريك آلياتها، لأسباب عدة من بينها الرغبة في ألا تتهم بالتدخل في شؤون البلدان الحاصلة حديثا على الاستقلال، وثانيا لأن نجم موغابي كان يسطع في سماوات إفريقيا بصفته واحدا من أبطال التحرر والانعتاق. وكان دخوله إلى مقار انعقاد مؤتمرات قمة منظمة الوحدة الافريقية يقابل بالتصفيق والوقوف إجلالا له باعتباره يجسد الرمز الشقيق لنلسون مانديلا المعتقل آنذاك.
لمعرفة روبرت موغابي ونظرته للحكم والعالم يجب النظر إليه من زاوية الظروف الدولية التي شكلت شخصيته. فهو حين وصل إلى الحكم وجد في القارة السمراء نماذج غريبة من الحكام الافارقة لفترة ما بعد الاستعمار The post colonial era. فقد وجد أمامه عيدي أمين، رئيس أوغندا الذي كان يلقي بجثث معارضيه أو من سخط عليهم، ومن ضمنهم وزيره في الخارجية، لتأكلها التماسيح. ووجد أمامه جون بيديل بوكاسا زعيم جمهورية إفريقيا الوسطى، الذي أشرف شخصيا على قتل ما لا يقل عن مائة طفل، فقط لأن ذويهم رفضوا شراء الزي المدرسي الموحد من شركة تابعة لإحدى زوجاته. في تلك الفترة وصل موغابي ليجد رئيس إثيوبيا الماركسي مونغيستو هيلي مريم يعدم ويدفن الامبراطور هيلي سيلاسي تحت مرحاض القصر الامبراطوري. في تلك الفترة كان زعيم زايير (الكونغو الديمقراطية حاليا) موبوتو سيسي سيكو يعيش حالة بذخ غير مسبوقة ناهبا ثروات بلاده الطبيعية ذات اليمين وذات الشمال بينما شعبه ينوء تحت أعباء القهر والقمع والقتل.
بالمقابل كانت افريقيا قد أنجبت أبطالا قوميين من أمثال باتريس لومومبا الذي أعدمه سي سيسكو، وكوامي نكروما في غانا وفليكس هوفويت بوانيي في الكوت ديفوار، والحاج أحمد سيكو توري في غينيا كوناكري، وفي ما بعد ببضع سنوات سيظهر طوماس سنكارا في بوركينا فاسو .
هذا السياق الإفريقي المتقلب سياسيا وثقافيا، والخاضع جزئيا لمخلفات الاستعمار وبقاياه، ولتجاذبات معسكري الشرق والغرب، كان كفيلا بالتأثير سلبا وإيجابا على موغابي.
بقي موغابي على هذا الحال الى مطلع تسعينيات القرن العشرين. حينها بدأت شعبيته تتآكل، وشرع المشهد السياسي في التململ بعد انهيار جدار برلين، وأيضا انهيار الرئيس أمام فتنة شابة كانت تعمل سكرتيرة في القصر، وتصغره بأربعين عاما.
إبان أيام الدراسة في غانا التقى الشاب موغابي بزميلة غانية تعمل في مجال التدريس أيضا، فوقع في حبها، ثم رافقته إلى بلده الذي كان يسمى آنذاك روديسيا الجنوبية، وفيه تزوجا عام 1961. حظيت السيدة سالي موغابي بمكانة كبيرة في قلوب أفراد شعب زمبابوي، إلى حد أنهم وصفوها بأم الشعب. لكنها في أواخر الثمانينيات أصيبت بداء السرطان الذي ظل ينخر جسدها العليل إلى أن وافتها المنية عام 1993. في تلك الاثناء كانت في القصر الرئاسي سيدة شابة ومتزوجة، تدعى غريس Grace، تتمثل وظيفتها في الضرب على الآلة الكاتبة لتحرير المراسلات والوثائق الإدارية. إلا أن ضرب هذه المرأة انتقل إلى قلب الرئيس العجوز، فترنح على وقْع غرامها، ليلتقي ذلك مع شغفها بالسلطة والمال والجاه، فكانت النتيجة طفلين مع الرئيس العاشق، وهي ما تزال على ذمة زوجها الفقير.
في هذه الفترة من حياة موغابي يمكن أن تصدق عليه مقولة “عودة الشيخ إلى صباه”. فهنا وقع تحت سكْر السكرتيرة التي سيتزوجها عام 1996، وتصير السيدة الأولى في القصر وفي البلاد.
المَعين السياسي لهذا المحارب القديم بدأ ينضب مع مر السنين، فما كان منه إلا أن يفتش في دفاتره القديمة ويعيد إحياء شعار إعادة توزيع الأراضي على الجماهير الشعبية المسحوقة. أطلق في عام 2000 أيدي ميليشيات حزبه عبر ربوع البلاد فشرعت في احراق ممتلكات من بقي من البيض وتخويفهم وسلبهم، فرحلت الغالبية منهم عن البلاد، ومعها رحلت الخبرة والعلاقات في الاسواق الدولية والسمعة.
في منتصف القرن العشرين كانت زمبابوي توصف ب”سلة غداء” الكثير من الدول، لكن بعد فرار أصحاب الضيع الكبرى نحو البلدان المجاورة أصبح بلد موغابي يستورد منتجات زراعية أساسية من أولئك البيض الذين استقروا في موزمبيق وجنوب إفريقيا. ويرد ذلك الى ان الملاك الجدد للاراضي الزراعية يفتقرون للخبرة والرأسمال اللازم والتقاليد التسويقية. بعبارة أخرى أعاد موغابي توزيع الكعكة، لكنه لم يستطع توسيع هذه الكعكة وتثمينها.
في عام 2008 تعرض الزعيم الأوحد لأول تحدٍّ ديمقراطي كبير حين نافسه على منصب الرئاسة مورغان تشانغيراي Morgan Tsvangirai زعيم (الحركة من أجل التغيير الديمقراطي). فقد ضغط موغابي على الجهاز المشرف على الانتخابات لكي لا يفرج عن نتائج الدور الأول من الانتخابات الرئاسية لمدة شهر بعد الاقتراع، وقد انتهى النزال القوي بين الجانبين بتقاسم موغابي السلطة مكرها مع تشانغيراي الذي اصبح رئيسا للوزراء. لكن هذا التعايش القسري انتهى عام 2013.
نعود للسيدة الأولى. ففي ذلك العام بدأ نجمها يسطع داخل حزب ZANU-PF وشرعت في التسلل تدريجيا إلى مفاصله إلى أن تولت قيادة منظمة نساء الحزب. لكن هذه المرأة التي قفزت من كرسي سكرتيرة الآلة الكاتبة إلى سرير الرئاسة، بدأت تطمح لاحتلال كرسي الزوج بعد رحيله المرتقب عن هذه الدنيا الفانية.
هنا سيبدأ الصراع الحقيقي على خلافة موغابي الذي ييلغ من العمر حاليا 93 عاما. فإذا كان بإمكان Grace أن تسحر الرئيس العجوز وتفتنه، فإن قيادات الحزب، وبشكل خاص رفاقه في السلاح من تنظيم (المحاربين القدامى) القوي، لن يقبلوا بهذه المرأة التي لا ماضي لها سوى ما مارسته من تأثير على الزعيم.
ستشرع هذه السيدة في احاطة نفسها بقيادات ثانوية من الشباب، وستنجح في استوزار عدد منهم ضمن ما سمي بمجموعة الأربعين G40، وستنجح في تأليب زوجها على أقرب المقربين منه وهو نائبه وشريكه في قمع أبناء شعب انديبيلي، ايمرسون امنانغاوا Emmerson Mnangagwa ، فأقاله من منصبه.
14 نوفمبر 2014
مساء هذا اليوم ستتحرك وحدات من الجيش نحو أهم المباني الحكومية بما فيها القصر الجمهوري ومقر الرئاسة وأبرز المحاور الطرقية بالعاصمة هراري. وعلى شاشة التلفزيون الحكومي وامواج الاذاعة الرسمية سيعلن أحد الضباط عن شن حملة تستهدف “مجموعة من المجرمين” في محيط موغابي. ثم ينهي البيان بالاعلان عن وضع موغابي نفسه وزوجته قيد الاقامة الجبرية.
لأول مرة ستمتليء شوارع هراري بمتظاهرين يطالبون الرئيس التسعيني بالرحيل من دون أن تطالهم آلة القمع التي يتزعمها الجيش. ولأول مرة لن يكتفي الشباب المتظاهر بانتقاد هذا الشخص الذي ورثوه من القرن العشرين، بل سيلتقطون صور (سيلفي) مع عناصر من الجيش.
18 نوفمبر 2017
وتيرة التغيير تمضي بسرعة. فمنظمة المحاربين القدامى التي ظلت العماد الذي يتكيء عليه موغابي، أعلنت تبرؤها من Grace وطالبت الحاكم الأبدي بالمغادرة.
19 نوفمبر 2018
منتصف النهار: اللجنة المركزية لحزب ZANU PF تعلن عن طرد موغابي من رئاسة الحزب وتشطب على زوجته من قوائم هذه الهيئة. وتمهل الرئيس أربعا وعشرين ساعة للتنحي وإلا فإن البرلمان سيعزله.
الساعة 1900 بتوقيت غرينتش:
التلفزيون الرسمي يبث صورا للرئيس العجوز محاطا بكبار قادة الجيش، ورجل دين ومسؤولين آخرين. يشرع موغابي في القراءة من مجموعة من الاوراق، ترتعش يداه، يتلعثم، يتدخل قائد الجيش ثلاث مرات لينبهه إلى أنه ارتكب أخطاء في القراءة أو أنه أغفل إحدى الورقات. يتحدث صاحبنا عن المؤسسات وعن اتفاقه مع الجيش على ان خروقات حدثت واخطاء اقتصادية ارتكبت وتجاوزات فردية وقعت.
ينتهي من القراءة، لكنه لم يقل الكلمة التي ظل الجميع ينتظرها على أحر من الجمر: الاستقالة. مكتفيا بالقول انه سيترأس اجتماعا للحزب في ديسمبر المقبل!.
رغم ذلك فإنه شتان ما بين ذلك الرجل الذي حينما كان يمشي مختالا، كانت افريقيا تهتز لصولاته وجولاته، وبين هذا العجوز الذي ضعفت ذاكرته، وخارت قواه، وانقلب عليه رفاقه، وجنت عليه الطموحات الزائدة زوجته.
لقد سمعته يردد في كلامه عبارات تشبه تماما ما قاله الرئيس التونسي زين العابدين بن علي في يناير عام 2011: لقد فهمتكم، نعم فهمتكم.
هذا هو فهم من فاته القطار.
ورغم ذلك فسيبقى موغابي عنيدا حتى آخر رمق.
امتلأت شوارع سالزبيري، عاصمة روديسيا، بالمواطنين الذين خرجوا للاحتفال بحصول حزب وطني يمثل تطلعاتهم على 57 مقعدا برلمانيا متقدما بمسافة طويلة عن منافسيه.
في تقرير تلفزيوني بثه برنامج Newsnight الاخباري بقناة بي بي سي مساء ذلك اليوم، وهو موجود على موقع يوتيوب، تجد تصريحات لعدد من الشباب الذين رأوا في تلك النتيجة مقدمة لتحقيق “الديمقراطية والتعددية الحقيقية والمساواة ووالازدهار الاقتصادي وتوفير فرص العمل لغالبية السكان”.
18 نوفمبر 2017
امتلأت شوارع وسط مدينة هراري، عاصمة زمبابوي، بمواطنين خرجوا للمطالبة بتنحي الرئيس روبرت موغابي، الذي بقي في السلطة لأكثر من 37 عاما.
في الشارع صرخ عدد من الشباب والشابات الذين يغمرهم الأمل بآفاق اقتصادية مغايرة بعد أن خلت المتاجر من المواد الأساسية وارتفع التضخم إلى مستويات خيالية منذ عام 2008.
في التاريخين كليهما خرج الناس مبتهجين/غاضبين من شخص واحد: روبرت موغابي.
هذا الرجل كان من الزعماء الذين قادوا الغالبية السوداء في روديسيا سابقا، زمبابوي حاليا، نحو التحرر من هيمنة الأقلية البيضاء ومن نير الاستعمار البريطاني.
ومثلما غصت شوارع ساليزبري سابقا، هراري حاليا، بنجاحه، فهاهي ذي تصرخ طلبا لتنحيه عن السلطة.
من يعرفون تاريخ الرجل لا يترددون في الاشادة بمواقفه الصارمة من الأنظمة العنصرية في جنوب افريقيا وناميبيا وبقية بلدان المنطقة.
ومن يقارنون بين الغالبية الافريقية حين حصلت زمبابوي على الاستقلال، وما هي عليه حاليا، سيعترفون رغم أنفهم بأن هذا الرجل الذي اشتغل في التدريس قبل المزاوجة بين النشاط السياسي والعمل العسكري في سبعينيات القرن الماضي، قد مكن نسبة تفوق تسعين في المائة من أبناء شعبه من تعليم مجاني وجيد. يكاد بلده يكون الأول من حيث تراجع معدلات الأمية في القارة.
ومن لديهم كرهٌ للاستغلال الذي نهجه كثير من أفراد الاقليات البيضاء التي أتت مع الاستعمار الأوروبي، سيجدون في روبرت موغابي محقق تلك الرغبة الدفينة في انتزاع الاراضي الخصبة الشاسعة منهم واعادة توزيعها على الغالبية الفقيرة المعدمة.
إذن هذا الرجل حقق لشعبه ما لم يحققه الراحل نلسون مانديلا، رمز التحرر الافريقي والانتصار الهادئ على نظام الفصل العنصري، ابارتهايد.
فموغابي أعاد توزيع الاراضي بعد ان اجبر الكثير من البيض في عام 2000 على الهرب خارج البلاد فرارا.
إلى هنا تبدو الأمور جميلة في عيون الحالمين الرومانسيين.
لكن لنعد قليلا الى الوراء.
في السبعينيات انتفضت الغالبية السوداء ضد استحواذ الاقلية الاوروبية على مفاصل الاقتصاد، وتحكمها في السياسة بعد اعلان ذوي الأصول الأوروبية الاستقلال من جانب واحد عن بريطانيا عام 1965 ، واقامة جمهورية روديسيا.
توزعت قيادة السود بين حركتين أساسيتين، الأولى تنضوي تحت لواء (الاتحاد القومي الافريقي لزمبايوي- الجبهة الوطنية ZANU-PF) بقيادة موغابي، و(الاتحاد الافريقي لشعب زمبابوي ZAPU) بقيادة جوشوا نكومو.
ورغم تقارب الأهداف بين الحركتين، فإنهما مختلفتان من حيث العدد والاديولوجيا والانتماء الإثني.
يتشكل الشعب الزمبابوي من مجموعتين عرقيتين كبيرتين، الأولى والأكثر عددا تسمى الشونا Shona ، ومنها ينحدر موغابي وغالبية قادة زانو-پي اف. وتأتي بعدهم مجموعة انديبيلي Ndebele التي ينحدر من صفوفها قادة ZAPU. لقد حارب مقاتلو المجموعتين في سبعينيات القرن الماضي جنبا إلى جنب في الأدغال ضد قوات الأقلية البيضاء التي كانت حينها مدعومة بنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا المجاورة.
لكن بعد استقلال زمبابوي ووصول موغابي الى الحكم في أبريل عام 1980، بدأت الأحقاد بين المجموعتين في الظهور، سيما وأن حزب موغابي تبنى سياسة ماركسية رغم حديثه المتواتر عن انتهاج سياسة عدم الانحياز لأي من قطبي العالم حينها: الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة.
شهد عاما 1982 و1983 حملات قمع شرسة ضد أبناء المجموعة العرقية انديبيلي، الذين اتهموا بالتمرد و”خيانة الثورة” والانحياز ل”الرأسمالية”. تهمة التخوين هذه كانت تلصق على نطاق واسع إبان حرب الأدغال بكل مواطن أسود يرفض الانضمام للمقاتلين، أو كل من تحوم شكوك حول احتمال ولائه للبيض. وبالمناسبة استخدمت قبلهم وبعدهم عدة حركات تحررية وانفصالية في افريقيا وغيرها التهمة ذاتها أو ما يشبهها ضد مخالفيهم.
انتهت حملة قمع أبناء شعب انديبيلي بمقتل الآلاف واعتقال عشرات الآلاف دون أي محاكمة.
لكن هل من فاضح لهذه الحملة على الصعيد الدولي؟.
لقد كانت الدول الغربية تتابع عن كثب هذه الممارسات، لكنها لم تستطع تحريك آلياتها، لأسباب عدة من بينها الرغبة في ألا تتهم بالتدخل في شؤون البلدان الحاصلة حديثا على الاستقلال، وثانيا لأن نجم موغابي كان يسطع في سماوات إفريقيا بصفته واحدا من أبطال التحرر والانعتاق. وكان دخوله إلى مقار انعقاد مؤتمرات قمة منظمة الوحدة الافريقية يقابل بالتصفيق والوقوف إجلالا له باعتباره يجسد الرمز الشقيق لنلسون مانديلا المعتقل آنذاك.
لمعرفة روبرت موغابي ونظرته للحكم والعالم يجب النظر إليه من زاوية الظروف الدولية التي شكلت شخصيته. فهو حين وصل إلى الحكم وجد في القارة السمراء نماذج غريبة من الحكام الافارقة لفترة ما بعد الاستعمار The post colonial era. فقد وجد أمامه عيدي أمين، رئيس أوغندا الذي كان يلقي بجثث معارضيه أو من سخط عليهم، ومن ضمنهم وزيره في الخارجية، لتأكلها التماسيح. ووجد أمامه جون بيديل بوكاسا زعيم جمهورية إفريقيا الوسطى، الذي أشرف شخصيا على قتل ما لا يقل عن مائة طفل، فقط لأن ذويهم رفضوا شراء الزي المدرسي الموحد من شركة تابعة لإحدى زوجاته. في تلك الفترة وصل موغابي ليجد رئيس إثيوبيا الماركسي مونغيستو هيلي مريم يعدم ويدفن الامبراطور هيلي سيلاسي تحت مرحاض القصر الامبراطوري. في تلك الفترة كان زعيم زايير (الكونغو الديمقراطية حاليا) موبوتو سيسي سيكو يعيش حالة بذخ غير مسبوقة ناهبا ثروات بلاده الطبيعية ذات اليمين وذات الشمال بينما شعبه ينوء تحت أعباء القهر والقمع والقتل.
بالمقابل كانت افريقيا قد أنجبت أبطالا قوميين من أمثال باتريس لومومبا الذي أعدمه سي سيسكو، وكوامي نكروما في غانا وفليكس هوفويت بوانيي في الكوت ديفوار، والحاج أحمد سيكو توري في غينيا كوناكري، وفي ما بعد ببضع سنوات سيظهر طوماس سنكارا في بوركينا فاسو .
هذا السياق الإفريقي المتقلب سياسيا وثقافيا، والخاضع جزئيا لمخلفات الاستعمار وبقاياه، ولتجاذبات معسكري الشرق والغرب، كان كفيلا بالتأثير سلبا وإيجابا على موغابي.
بقي موغابي على هذا الحال الى مطلع تسعينيات القرن العشرين. حينها بدأت شعبيته تتآكل، وشرع المشهد السياسي في التململ بعد انهيار جدار برلين، وأيضا انهيار الرئيس أمام فتنة شابة كانت تعمل سكرتيرة في القصر، وتصغره بأربعين عاما.
إبان أيام الدراسة في غانا التقى الشاب موغابي بزميلة غانية تعمل في مجال التدريس أيضا، فوقع في حبها، ثم رافقته إلى بلده الذي كان يسمى آنذاك روديسيا الجنوبية، وفيه تزوجا عام 1961. حظيت السيدة سالي موغابي بمكانة كبيرة في قلوب أفراد شعب زمبابوي، إلى حد أنهم وصفوها بأم الشعب. لكنها في أواخر الثمانينيات أصيبت بداء السرطان الذي ظل ينخر جسدها العليل إلى أن وافتها المنية عام 1993. في تلك الاثناء كانت في القصر الرئاسي سيدة شابة ومتزوجة، تدعى غريس Grace، تتمثل وظيفتها في الضرب على الآلة الكاتبة لتحرير المراسلات والوثائق الإدارية. إلا أن ضرب هذه المرأة انتقل إلى قلب الرئيس العجوز، فترنح على وقْع غرامها، ليلتقي ذلك مع شغفها بالسلطة والمال والجاه، فكانت النتيجة طفلين مع الرئيس العاشق، وهي ما تزال على ذمة زوجها الفقير.
في هذه الفترة من حياة موغابي يمكن أن تصدق عليه مقولة “عودة الشيخ إلى صباه”. فهنا وقع تحت سكْر السكرتيرة التي سيتزوجها عام 1996، وتصير السيدة الأولى في القصر وفي البلاد.
المَعين السياسي لهذا المحارب القديم بدأ ينضب مع مر السنين، فما كان منه إلا أن يفتش في دفاتره القديمة ويعيد إحياء شعار إعادة توزيع الأراضي على الجماهير الشعبية المسحوقة. أطلق في عام 2000 أيدي ميليشيات حزبه عبر ربوع البلاد فشرعت في احراق ممتلكات من بقي من البيض وتخويفهم وسلبهم، فرحلت الغالبية منهم عن البلاد، ومعها رحلت الخبرة والعلاقات في الاسواق الدولية والسمعة.
في منتصف القرن العشرين كانت زمبابوي توصف ب”سلة غداء” الكثير من الدول، لكن بعد فرار أصحاب الضيع الكبرى نحو البلدان المجاورة أصبح بلد موغابي يستورد منتجات زراعية أساسية من أولئك البيض الذين استقروا في موزمبيق وجنوب إفريقيا. ويرد ذلك الى ان الملاك الجدد للاراضي الزراعية يفتقرون للخبرة والرأسمال اللازم والتقاليد التسويقية. بعبارة أخرى أعاد موغابي توزيع الكعكة، لكنه لم يستطع توسيع هذه الكعكة وتثمينها.
في عام 2008 تعرض الزعيم الأوحد لأول تحدٍّ ديمقراطي كبير حين نافسه على منصب الرئاسة مورغان تشانغيراي Morgan Tsvangirai زعيم (الحركة من أجل التغيير الديمقراطي). فقد ضغط موغابي على الجهاز المشرف على الانتخابات لكي لا يفرج عن نتائج الدور الأول من الانتخابات الرئاسية لمدة شهر بعد الاقتراع، وقد انتهى النزال القوي بين الجانبين بتقاسم موغابي السلطة مكرها مع تشانغيراي الذي اصبح رئيسا للوزراء. لكن هذا التعايش القسري انتهى عام 2013.
نعود للسيدة الأولى. ففي ذلك العام بدأ نجمها يسطع داخل حزب ZANU-PF وشرعت في التسلل تدريجيا إلى مفاصله إلى أن تولت قيادة منظمة نساء الحزب. لكن هذه المرأة التي قفزت من كرسي سكرتيرة الآلة الكاتبة إلى سرير الرئاسة، بدأت تطمح لاحتلال كرسي الزوج بعد رحيله المرتقب عن هذه الدنيا الفانية.
هنا سيبدأ الصراع الحقيقي على خلافة موغابي الذي ييلغ من العمر حاليا 93 عاما. فإذا كان بإمكان Grace أن تسحر الرئيس العجوز وتفتنه، فإن قيادات الحزب، وبشكل خاص رفاقه في السلاح من تنظيم (المحاربين القدامى) القوي، لن يقبلوا بهذه المرأة التي لا ماضي لها سوى ما مارسته من تأثير على الزعيم.
ستشرع هذه السيدة في احاطة نفسها بقيادات ثانوية من الشباب، وستنجح في استوزار عدد منهم ضمن ما سمي بمجموعة الأربعين G40، وستنجح في تأليب زوجها على أقرب المقربين منه وهو نائبه وشريكه في قمع أبناء شعب انديبيلي، ايمرسون امنانغاوا Emmerson Mnangagwa ، فأقاله من منصبه.
14 نوفمبر 2014
مساء هذا اليوم ستتحرك وحدات من الجيش نحو أهم المباني الحكومية بما فيها القصر الجمهوري ومقر الرئاسة وأبرز المحاور الطرقية بالعاصمة هراري. وعلى شاشة التلفزيون الحكومي وامواج الاذاعة الرسمية سيعلن أحد الضباط عن شن حملة تستهدف “مجموعة من المجرمين” في محيط موغابي. ثم ينهي البيان بالاعلان عن وضع موغابي نفسه وزوجته قيد الاقامة الجبرية.
لأول مرة ستمتليء شوارع هراري بمتظاهرين يطالبون الرئيس التسعيني بالرحيل من دون أن تطالهم آلة القمع التي يتزعمها الجيش. ولأول مرة لن يكتفي الشباب المتظاهر بانتقاد هذا الشخص الذي ورثوه من القرن العشرين، بل سيلتقطون صور (سيلفي) مع عناصر من الجيش.
18 نوفمبر 2017
وتيرة التغيير تمضي بسرعة. فمنظمة المحاربين القدامى التي ظلت العماد الذي يتكيء عليه موغابي، أعلنت تبرؤها من Grace وطالبت الحاكم الأبدي بالمغادرة.
19 نوفمبر 2018
منتصف النهار: اللجنة المركزية لحزب ZANU PF تعلن عن طرد موغابي من رئاسة الحزب وتشطب على زوجته من قوائم هذه الهيئة. وتمهل الرئيس أربعا وعشرين ساعة للتنحي وإلا فإن البرلمان سيعزله.
الساعة 1900 بتوقيت غرينتش:
التلفزيون الرسمي يبث صورا للرئيس العجوز محاطا بكبار قادة الجيش، ورجل دين ومسؤولين آخرين. يشرع موغابي في القراءة من مجموعة من الاوراق، ترتعش يداه، يتلعثم، يتدخل قائد الجيش ثلاث مرات لينبهه إلى أنه ارتكب أخطاء في القراءة أو أنه أغفل إحدى الورقات. يتحدث صاحبنا عن المؤسسات وعن اتفاقه مع الجيش على ان خروقات حدثت واخطاء اقتصادية ارتكبت وتجاوزات فردية وقعت.
ينتهي من القراءة، لكنه لم يقل الكلمة التي ظل الجميع ينتظرها على أحر من الجمر: الاستقالة. مكتفيا بالقول انه سيترأس اجتماعا للحزب في ديسمبر المقبل!.
رغم ذلك فإنه شتان ما بين ذلك الرجل الذي حينما كان يمشي مختالا، كانت افريقيا تهتز لصولاته وجولاته، وبين هذا العجوز الذي ضعفت ذاكرته، وخارت قواه، وانقلب عليه رفاقه، وجنت عليه الطموحات الزائدة زوجته.
لقد سمعته يردد في كلامه عبارات تشبه تماما ما قاله الرئيس التونسي زين العابدين بن علي في يناير عام 2011: لقد فهمتكم، نعم فهمتكم.
هذا هو فهم من فاته القطار.
ورغم ذلك فسيبقى موغابي عنيدا حتى آخر رمق.