«سواكن».. هل تحرك الساكن في العمل العربي المشترك؟
القرن الأفريقي، كما يراه السياسيون والاقتصاديون، هو المنطقة الجغرافية التي تضم الصومال وجيبوتي وأثيوبيا وإرتريا وشمال كينيا وأوغندا وجنوب السودان، وهو منطقة تتحكم بمدخل البحر الأحمر الجنوبي وخليج عدن وباب المندب، وقد ظلت هذه المنطقة الاستراتيجية هدفاً للصراع على النفوذ بين الدول الكبرى، منذ حقبة الاستعمار وما تلاها من الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وهي تشهد، في هذه الأيام تنافساً محموماً بين الدول الإقليمية والدولية، زاد من حدته توجه دول القرن الأفريقي، في ظل واقعها الاقتصادي المتردي وهشاشة بنيتها وضغوط واقعها السكاني، إلى الاستفادة من موقعها وموانئها المطلة على البحر الأحمر، المجرى المائي المتحكم بالتجارة الدولية، والمنصة التي تمكن من مراقبة ومواجهة التحديات الأمنية وتزيد في فعالية الوجود العسكري والنفوذ الاقتصادي والسياسي.
وتعد جيبوتي «درة» هذا القرن، بموقعها الاستراتيجي، وانفتاحها السياسي والاقتصادي على الجميع، ومينائها المتطور بعد إسناد إدارته إلى مجموعة موانئ دبي مدة 20 عاماً، فهو الميناء الوحيد الذي يطبق مواصفات القانون الدولي لأمن السفن والموانئ في المنطقة، ولهذا يحظى بمكانة خاصة زادت نتيجة لاضطراب الأحوال في الصومال، وانتهاء الصراع بين إرتريا وأثيوبيا بالانفصال، الذي من نتيجته أن أصبحت أثيوبيا الدولة المكتظة سكانياً، دولة داخلية ليس لها منفذ بحري.
وباتت جيبوتي، بموقعها الاستراتيجي المطل على الجزيرة العربية والمدخل الطبيعي إلى شرق أفريقيا، مطمعاً لكثيرين، فهي دولة صغيرة فقيرة الموارد، أدركت أهمية وقيمة موقعها فانفتحت على كل الذين يريدون أن يطلوا على جزيرة العرب من نافذة اليمن (بؤرة الصراع الإقليمي الذي يحظى باهتمام الدول الكبرى)، التي لا تبعد عنها أكثر من 20 كيلومتراً، وتحيط بها إرتريا والصومال وأثيوبيا، في هذا البلد الصغير توجد قاعدة أميركية وأخرى تركية وقاعدة صينية، وتربطها اتفاقات عسكرية وأمنية بدول عربية، وقبل كل هؤلاء النفوذ الفرنسي التقليدي المستمر منذ سنوات الاستعمار، على رغم رحيله رسمياً. وليست جيبوتي وحدها التي تفتح أراضيها للقواعد العسكرية، فجارتها إرتريا لديها قاعدة إسرائيلية ووجود عسكري إيراني، في سعيها للهيمنة على اليمن من خلال «وكلائها» الحوثيين، ومعروف أن إسرائيل من أوائل من وضعوا أقدامهم في المنطقة، من خلال دعم الثورة الإرترية، ولا تغيب من المشهد في هذه المنطقة الحيوية روسيا التي تغازل «بقايا» العهد الماضي في عدن.
وعلاقة الدول الكبرى بحلفائها الإقليميين لم تعد كما كانت في الصيغة القديمة، بحيث تتحرك دولة كبرى وتدور في فلكها مجموعة من الدول تحفظ لها أمنها ومصالحها واستقرارها في مقابل تبعية معلنة أو مفهومة ضمناً، هذا الوضع تغير وأصبحت العلاقات الدولية والمصالح المتشابكة والشركات عابرة القارة تتجاذب النفوذ وتقلل من سطوة الأقطاب القديمة لمصلحة «أقطاب» جدد صاعدين بإمكاناتهم الاقتصادية وتطورهم العلمي وشركاتهم القادرة على منافسة مؤسسات القوى القديمة، بل تفوقها مرونة وحيوية وفهما لمتطلبات شعوب العالم النامي، وخلق هذا الواقع «طامعين» جدداً يتحركون في مجالهم الحيوي ويبادرون إلى مد جسور من المصالح مع الآخرين في صورة أقل حدة من سطوة «الكبار» الذين يظهرون قوتهم ويدفعون الدول إلى اتخاذ مواقفها بطرق تشعرها بأنها مسلوبة الإرادة ناقصة الاستقلال، هؤلاء الطامعون الجدد يدخلون إلى صناعة النفوذ من نافذة الشراكة والدعوة إلى حمايتها، من دون أن يتظاهروا في صورة الإملاء. وفي هذه المنطقة التي نعيش فيها نرى المنافسة على النفوذ من دول إقليمية (إيران وتركيا) ودول كبرى (أميركا وروسيا)، ودول لها تأثيرها الاقتصادي والتقني والعلمي وبات لها حضورها وتأثيرها الاقتصادي (الهند والصين)، وكلها تستغل إمكاناتها وحاجة دول المنطقة المتحكمة في المنافذ البحرية. وجاءت زيارة الرئيس التركي لبعض الدول الأفريقية (تونس، وتشاد، والسودان، وأثيوبيا) في هذا السباق، إذ وقع سلسلة من الاتفاقات الاقتصادية والاستراتيجية، أبرزها في هذا السياق، المتصل بالأمن العربي، اتفاق إدارة جزيرة «سواكن» السودانية المقابلة لميناء جدة على الضفة الغربية للبحر الأحمر.
ومن الطبيعي أن يحظى هذا الاتفاق باهتمام الإعلام العربي، بغض النظر عن زاوية الرؤية وتقدير الآثار وحساب المكاسب والخسائر وتفسير الدوافع والاختلاف في آثارها في العمل العربي المشترك، الذي يعيش أسوأ مراحله، لكن ماذا بعد النقاش المحتدم والاختلاف في تفسير النيات وتعليل الدوافع؟ هل تخرج المجموعة العربية من سياسة ردود الأفعال وموقف الاستدراج إلى ساحة معارك لم تخطط لها، وتعيد النظر في توجهات «الانكفاء» التي انحاز إليها بعضهم، للخروج برؤية استراتيجية تضامنية تتحرك في مجالها الحيوي وموقعها الاستراتيجي بإمكاناتها الاقتصادية والعسكرية وحضورها وتأثيرها الثقافي، الذي يمكنها من استعادة علاقات تاريخية راسخة مع دول الجوار تؤمّن بها «حزامها» الأمني، وتقوي بها قوتها العسكرية، وتحمي بها مصالحها الاقتصادية والأمنية، وتقطع الطريق على من يستغل «الفراغات» في العلاقات العربية – العربية ليتسلل منها؟ هذا ما يصب في المصلحة العربية الجماعية، وهو محتاج إلى إعلام يدرك مسؤوليته، يغذي فهماً مشتركاً يعين متخذي القرار على المضي في هذا الطريق.
ومن المحزن ظهور معلقين وكتاب يقعون في أخطاء مفصلية حين يكرسون مقولة إن العرب ليسوا «أمة»، بل شعوب متفرقة تجمعهم الجغرافيا ويفرقهم الدين والانتماء العرقي والارتباط الروحي، وإن «الأمن العربي» وهم أوجدته شعارات عاطفية لم تصمد أمام الحقائق وسقطت في واقع الحياة. هؤلاء يتكاثرون، على امتداد الخريطة العربية، يعزفون نغمة «الوطنية» اليائسة من جدوى مشروع الأمة العربية، من دون أن يدركوا، إذا أُحسن الظن بغالبيتهم، أبعادها وأخطارها. هذه الدعوة «التمزيقية» تحقق مصالح أولئك الذين يريدون الهيمنة على هذه المنطقة بخيراتها وشعوبها مفرقة منقسمة متنافرة في ما بينها.
محمد المختار الفال – كاتب سعودي والمقال للحياة