تزامن إقرار مجلس النواب الاردني لقانون الموازنة العامة والوحدات المستقلة للعام 2018 مع مصادقة الكنيست الاسرائيلي على قانون “القدس الموحدة”، والذي بدوره سيعقّد او سيمنع أي محاولة لتسليم احياء في القدس للسلطة الفلسطينية في إطار أي تسوية محتملة، الموازنة العامة للدولة حملت في طياتها كل الخيبات والمحظورات، رفوعات وضرائب ستشمل اليابس والاخضر إن بقي هناك أخضراً، صاغتها حكومتنا الموقرة دون ان يهتز لها جفن، وأقرّها نوابنا الأشاوس وهم “يلعبون” بهواتفهم النقالة، فالحكومة او بمعنى أدق “صانع القرار” لا ينقصه الجرأة في اتخاذ القرارات وإصدارها وتنفيذها، مع ملاحظة ان العرض الخاص بالجرأة والشجاعة والقرارات الحاسمة لا يسري الا ضمن حدود المملكة الاردنية فقط!.
على الجانب الآخر من النهر، الكيان الصهيوني يبتلع القدس والضفة الغربية وفلسطين كلها، بمباركة الولايات المتحدة، ودعمها الغير متناهي لهذا الكيان، وهما معاً “اسرائيل واميركا”، يدقّان مسماراً في نعش “السلام المزعوم”، وقد حاولتُ كمواطن اردني ان ابحث عن موقف اردني عملي وواضح، او قرارات اردنية رسمية قابلة للتنفيذ، نحافظ بها على ما تبقى من ماء وجهنا ووجه “علاقات الاردن ومكانته الدولية”، فلم أجد الا صور وزير إعلامنا متجهما، يرافقها سيل من تصريحات الشجب والاستنكار والتنديد.
لقد دأب الاردن الرسمي على التعامل مع “اسرائيل” بكل وداعة وديبلوماسية و “نفسٍ طويل”، لقاءات واجتماعات برعاية، وتطبيع مجاني، برعاية امريكية، لا بل تعداه احياناً الى تبرير همجيته ووحشيته وأطماعه، وبالرغم من كل ذلك ، لم يستطع الاردن ان يغير من وجهة النظر الامريكية –جمهوريين وديمقراطيين- المنحازة للكيان الصهيوني قيد أنملة، أتدرون لماذا؟ لأن عملية السلام برمتها لم تكن يوماً قراراً شعبياً أردنياً، بل تم تمريرها وتمرير تبعاتها رغماً عن أنف الشارع الاردني، وحتى عندما اعترض الاردنيون على اتفاقية الغاز، واحتجوا على مقتل القاضي زعيتر، وغيرها من المواقف الغاضبة، كان الاردن الرسمي يتعامل مع الموقف الشعبي بكل “تطنيش” وتهميش، واليوم يعود الموقف الرسمي ليشكّل موقفاً شعبياً “حسب الطلب”، لا ندرك ماهيته، ولا نفهم الغاية منه، فالسفير الاردني ما زال موجوداً لدى الكيان الصهيوني، والملك شخصياً أشرف على إتمام اجراءات الدعم السنوي الامريكي للأردن قبيل إعلان ترامب عن نقل السفارة الامريكية للقدس ببضعة أيام، فأين هي الدبلوماسية التي صدّعتمونا بها؟ هذا غباءٌ سياسي محض لا يمت للدبلوماسية بصلة!
سياسة النفس الطويل، وتشكيل التحالفات الوهمية، والخروج بقرارات هلامية طويلة الامد، وضبط النفس، والاحتفاظ بحق الرد، والشجب والاستنكار، ونوبات التحذير اللامنتهية، كل هذه السياسات الوادعة لا تظهر الا عند التعامل مع الكيان الصهيوني، بينما تختلف الصورة كلياً عندما يتعلق الأمر بالشأن الداخي، فالحمل الوديع يتحول فجأة الى ذئب مفترس، يتخذ القرار تلو القرار دون ادنى تردد او إحساس بالمسؤولية، تعديل للدستور هنا يقلبه رأساً على عقب، مؤسسات يتم إنشاؤها هناك بجرة قلم للتلميع والتسويق عالمياً، تقاذف للمسؤولية بين الحكومات المتلاحقة، مديونية تطاول عنان السماء يرافقها مليون سؤال حول أوجه إنفاقها وازديادها، ملف إدارة الدولة منوط “بالقصر” الذي لن تجرؤ على انتقاد حتى “برامكته”، تغييرات ديموغرافية غير مدروسة ولا محسوبة يتم فرضها بالقوة، إلغاء اجتماعات بصورة مخالفة للدستور، إصرار على تنفيذ سياسات مستوردة معلّبة لم تجد ما يسد رمقها من الموازنة المتهالكة، وغيرها الكثير من السياسات المدعمة والمصونة بباقة متنوعة من العقوبات المفروضة، وبالقانون!
على صانع القرار الاردني، أياً كان، ان يدرك ويعترف بأن ملف الوصاية على المقدسات هو أكبر من قدرتنا ومن هامش تأثيرنا، وأنه هو من أوصلنا الى هذه المكانة، وأن التشنج الرسمي تجاه هذا الملف لن يدفع ثمنه الا المواطن الاردني البسيط، المواطن الذي استنزفته سياساتكم الرعناء، المواطن الذي فقد بوصلته تحت تأثير انتقائية التماهي بين الموقفين الرسمي والشعبي، وبين ضبابية إدارة الملفات السياسية، لقد تعبنا من لعب دور “اللحاف” الذي تغطون به انفسكم في اوقات البرد، ثم تركلونه بأقدامكم في أوقات الحر!
محمد يوسف الشديفات