«الكوفة» لهشام جعيّط: دعوة لاستعادة المدينة الأولى في الإسلام؟
في القرن الرابع عشر، حين قام الرحالة ابن بطوطة بجولته في العالم الإسلامي، اكتشف حين وصل إلى جنوب ما يسمى اليوم بالعراق، أن المدينة التي كان يتشوق لرؤيتها والتجوال فيها، أكثر من أية مدينة أخرى في عالم الإسلام، لم تعد موجودة، أو بالأحرى لم يعد يوجد منها سوى بضعة آثار ورهط من سكان آثروا ألا يبرحوها كما فعلت الغالبية العظمى من السكان الذين أسسها آباؤهم وأجدادهم، لا سيما منهم القادمون من جنوب الجزيرة العربية. حين زارها ابن بطوطة كان لا يزال قائماً في الكوفة مسجدها الذي بقي، على أي حال قائماً حتى أيامنا هذه، بشكل أو بآخر. وكيف كان بالإمكان إزالة ذاك الذي كان أول مسجد بني حقاً من لا شيء، في التاريخ الإسلامي؟ فالحال أن مسجد الكوفة، كما الكوفة كلها على أي حال، لم يُقم في هذه المدينة مكان أي معبد سبق وجوده كما الحال بالنسبة إلى معظم مساجد الإسلام الأولى، بل في مكان وسط المدينة التي أُسست بدورها في مكان خال يقع على ضفة فرع من فروع الفرات، يدعى الهندية، على مبعدة فراسخ قليلة إلى الشمال الشرقي من النجف الأشرف، بالتالي فإن الكوفة نفسها ستكون في التاريخ الإسلامي، أول مدينة ينشئها المسلمون العرب خارج الجزيرة العربية وذلك أيام الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، لكنها سوف تكون بعد قرون قليلة، أول مدينة إسلامية تزول من الوجود، ولأسباب سياسية على الأرجح.
هذا ما نستشفه على الأقل من الكتاب الذي كرسه الباحث التونسي هشام جعيط لهذه المدينة وتجلى أول الأمر لديه كأطروحة دكتوراه مميزة، قبل أن يتحول في لغته الأصلية، ثم في ترجمته العربية التي نرجح أن المؤلف نفسه هو من قام بها لتصدر في عام صدور الأصل الفرنسي نفسه أولاً عن «مؤسسة الكويت للتقدم العلمي» (1986)، ثم في طبعة ثانية منقحة عن دار الطليعة في بيروت (1993). والحقيقة أن هذا الكتاب، الذي لم يلق في اعتقادنا ما يستحقه من اهتمام لدى صدوره، لا يمكن اعتباره كتاباً عادياً عن مدينة عادية. بل هو من تلك الكتب التي تؤسس وتشتغل على لب الموضوع التاريخي الذي لا يكتفي بالسرد والوصف ليطلع باستنتاجات يغلب عليها الطابع الأيديولوجي كما اعتاد أن يكون هذا النوع من الكتب في الثقافة العربية المعاصرة. بل هو يبدو لنا أقرب إلى ما يدعو إليه «التاريخ الجديد» كما عبّرت عنه مدرسة «الحوليات» الفرنسية، من اهتمام بالتفاصيل وتوقف عند الأبعاد الاقتصادية والثقافية وضروب الحياة اليومية العائدة إلى الموضوع المؤرَّخ، وفي نوع من التضفير بين التاريخ والجغرافيا. ربما يكون علينا أن نتوقف أول الأمر عند ما يقوله «الناشر» عن الكتاب– ونرجح أن المؤلف نفسه هو الذي صاغ العبارات ناسباً إياها إلى الناشر!-: «يطمح هذا الكتاب إلى أن يكون إحياء أو قل ترميماً للكوفة، أولى الحواضر العربية الكبرى، زمنياً، خارج الجزيرة العربية التي وُلدت مع الفتح، وكانت أحد المراكز الحساسة في الإمبراطورية، وزالت اليوم من الوجود»(…). والحقيقة، يتابع كاتب هذه الفقرة: «أن الكوفة تمثل بامتياز تاريخ الحضارة الإسلامية في أقدم تعابيرها وأهمها التي يُحكى عنها الكثير ويُعرف عنها القليل من حيث حياتها النابضة التي تتراءى في آخر المطاف مثيرة للخيال اليوم…». وكيف لا تثير مثل هذا الخيال مدينة عرفت كيف تكون خلال القرون الثلاثة الأولى من التاريخ الإسلامي- وقبل أن يبدأ دمارها على أيدي القرامطة ثم إهمالها على أيدي العباسيين-، مركز إشعاع فكري وأدبي وبخاصة لغوي، حيث نعرف، ويفيدنا المؤلف بالتأكيد، أنها كانت مع توأمها البصرة، وانطلاقاً من جغرافيتها القريبة من مناطق سكنى البدو من العرب الأقحاح، مركز انطلاق أولئك الباحثين في شتى الشؤون الفكرية من الذين كانوا يقصدون عرب الصحارى لكي يتعلموا على أيديهم قواعد اللغة وتواريخ الشعراء الأقدمين وتفاصيل الفكر والإبداع اللذين ارتبطا بتلك العصور التي دعاها المسلمون بـ «الجاهلية»، وكانت في حقيقتها خزانة حضارة لا تضاهى من المهم أن نقول هنا أنها وصلت عبر تطور اللغة وحفظ الأشعار والتلاقح بين «الكوفيين» والأعراب، إلى استعادة ذلك الإرث والحفاظ على جذوره العربية.
عن هذا يحدثنا هشام جعيط في هذا الكتاب بالتأكيد، لكنه كأساس لأطروحاته، يقول لنا لماذا كان هذا ممكناً هو الذي يرى أن «الكوفة المتخفية اليوم في رمالها، تبدو أكثر تخفّياً في ثنايا أقدم النصوص التاريخية، وتنهض لنواظرنا مجلببة بكل هيئاتها وأجهزتها الكثيفة والكثيرة في آن. فقد خالجتها رعشات الحياة النابضة بقوة، وهي تتكون بين النهر والصحراء مشرفة على سهول بلاد الرافدين…»، هي التي إنما أسسها في الأصل أبناء قبائل جنوب الجزيرة العربية، لا سيما يمانيو الأصل منهم، أولئك الذين قصدوا بلاد السواد (العراق) في جيوش الفتح وأرادوا الاستيطان هنا بعد تحقيقه. ومن هنا ما يقوله جعيط على خطى المستشرق الفرنسي ماسينيون الذي كان من أوائل الباحثين، وميدانياً بالتحديد، في تاريخ الكوفة. غير أن المؤلف التونسي، إذ ينطلق من كتابات ماسينيون، وغالباً في نظرة ناقدة حاذقة تعتمد أساليب في البحث التاريخي لم يكن للمستشرق الفرنسي عهد بها– ولكن من دون أن يبخس هذا الأخير حقه-، يشتغل على مئات المصادر العربية القديمة والحديثة، بخاصة منها تلك التي أرخت لتكوّن مدينة الكوفة متحوّلة مما يشبه المعسكر إلى تلك المدينة المزدهرة فكريا والتي أنجبت كباراً من الشعراء والمفكرين العرب– ومنهم بالطبع أبو الطيب المتنبي الذي تتزامن بدايات سيرته كما نعرف، مع هجوم القرامطة على المدينة وتدميرها في مشهد عايشه طفلاً ولن يبرح مخيلته أبداً-.
ويؤكد لنا جعيط أن غايته الأساسية من الكتاب إنما كانت إقامة «حوار حقيقيّ بين حضارة الكوفة العربية، وتلك الحضارات التي تقدّمتها كالبابلية والفارسية والهلنستية والرومانية». والحال أنه إن كان جعيط يلحظ ضروب التواصل والتقاطع بين كل تلك الحضارات وصولاً إلى الكوفة فإنه «يظلّ متيقّظاً للإسهام العربي الصرف، وهو يتخطى الكوفة ليقوم باستجواب البصرة وواسط وبغداد وصولاً إلى الانكباب على حركة نشوء المدينة الإسلامية ذاتها».
والحقيقة أن في هذه العبارة الأخيرة يمكننا أن نجد مفتاح هذا الكتاب ككل حيث أن في تاريخ الكوفة كل المقدمات التي تؤشر إلى الولادة الخالصة للمدينة الإسلامية التي تولد لضرورات عملية من دون أن تقوم على بنيان سبقها. ومن هنا ما يبدو واضحاً كيف أن العرب الأقحاح الذين اختاروا المكان وهندسوه، إنما قسموه، أوّل ما فعلوا، انطلاقاً من توزعاتهم القبلية. وهو أمر بالغ الأهمية يعكسه لنا المؤلف في خريطة– مفترضة– للتوزع السكاني يوم التأسيس حيث قُسّمت المدينة ذات الشكل المربع على النقيض من الشكل الدائري الذي تتخذه المدن عادة، إلى مجموعة من أحياء تحيط بالمركز الذي يشغله الجامع، المشترك والمركزي، إلى جانب القصر والأسواق. ولعل أول ما نلاحظه في ذلك التقسيم عدم وجود تراتبية معينة بين عبس وقيس والأنصار ومحارب وكنانة وجهينة وعبد قيس وربيعة وكندة ومذحج وهمدان وغيرها من القبائل التي استوطنت الكوفة وبنتها عند التأسيس. ولعلنا لا نحتاج هنا إلى طويل بحث حتى نتنبه إلى أن معظم هذه الأقوام إنما أتت من اليمن وما يحاذيه، ما يدفع دائماً إلى التساؤل حول ما يمثله ذلك المخزون اليمني من البشر، خصوصاً إن نحن تذكرنا هنا أن تلك الاندفاعة اليمنية الإسلامية نحو الشمال الشرقي ستوازيها بعد عقود قليلة من السنين اندفاعة يمنية أخرى نحو شمال أفريقيا ومنها نحو الأندلس حيث يمكننا أن نلاحظ بسهولة أن جذور كبار المفكرين الأندلسيين تعود إلى اليمن أيضاً.
لكن هذا، وكما هو واضح، ليس موضوع هذا الكتاب وإن كان لا يفوت المؤلف أن يشير إليه. فموضوعه هو هنا بناء وسقوط تلك الحاضرة العربية التي يتساءل منذ البداية عما إذا كانت معسكراً أم مدينة حقيقية، قبل أن ينتقل بعد قليل إلى دراسة مسألة التمدن والاستقرار وصولاً إلى اعتبار الكوفة نموذجاً في هذا السياق ليختم دارساً الوجه المدني لتلك المدينة التي يطمئن نفسه في الختام بقوله إن «ما من مدينة تنتهي أبداً من بنائها الذاتي لأن نبضات حياتها ترتبط بالمادة البشرية الموجودة داخلها»، فهل نحن أمام دعوة دائمة لعودة الكوفة؟
ابراهيم العريس والمقال للحياة