مستقبل الشرق الاوسط بين النفوذ الايراني والهيمنة التركية
وفي العادة تحصل هذه التطورات ( حينما تحدث تغيرات كبيرة في خارطة القوى على الساحة الدولية , وعلى الاغلب عندما تنهار امبراطورية كبيرة , – او يبدا نفوذها بالتراجع – فتجلب معها موجة من الفوضى وعدم الاستقرار الى المناطق المحيطة بها – بنفوذها- وتستمر هذه الاضطرابات لسنين عديدة )([1]).وهو ما حدث ويحدث بالفعل مع تراجع مساحات نفوذ وهيمنة الولايات المتحدة الاميركية على رقعة الشطرنج العالمية . الامر نفسه الذي حدث بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وادى الى بروز الولايات المتحدة الاميركية كقوة مركزية حينها. حيث يؤكد بريجنسكي قائلا: ( صير انهيار الاتحاد السوفيتي قلب ارض اوراسيا فراغا سياسيا )([2])
على ضوء ذلك برزت بعض من القوى القارية والاقليمية التي استغلت ذلك الوضع او التراجع او الضعف في مناطق نفوذ تلك القوى الدولية الكبرى . كان على راسها كل من ايران وتركيا. صحيح ان كل منهما كان له نفوذ وحضور جيوسياسي لا يستهان به في هذه المنطقة الجغرافية من العالم منذ عقود طويلة . الا ان ذلك لم يكن بهذا الاتساع والقوة والتدخل المباشر والصريح وفي مناطق كانت تدور ولسنوات طويلة في فلك كل من الولايات المتحدة الاميركية وروسيا كما هو الحال في العراق وسوريا وبعض دول شبه الجزيرة العربية وشمال افريقيا والقرن الافريقي ومنطقة القوقاز واسيا الوسطى .
بناء على ذلك . يتضح ان هناك العديد من العوامل الحاضرة بكل بقوة في استراتيجيات وعقائد الصراع بين القوى المتنافسة على ملء الفراغ الجيوسياسي سالف الذكر , والتي رفعت من سقف اهمية هذه البقعة الجغرافية من العالم , وبدورها ستدفع حقوق التنافس الى مرحلة من الخطورة والتأزيم بينها خلال الفترة الزمنية القادمة – العقد الثالث من القرن 21- يقع على راس تلك العوامل منابع النفط , والموقع الجغرافي للشرق الاوسط في قلب العالم القديم والذي يعتبر قلب الهيمنة الجيواستراتيجية والنفوذ الاقتصادي الدولي , وهو في ذات الوقت بات البطن الرخو في النظام العالمي المتشكل . نظام التعددية القطبية الفضفاضة .
يضاف الى ذلك ان كل من تركيا وايران تدركان تمام الادراك ان استمرار سيطرة تلك القوى الكبرى على الشرق الاوسط خلال العقد الثالث من القرن 21 , خصوصا انه عقد يتجه اكثر فاكثر نحو نظام حكم الكثرة او التعددية القطبية الفضفاضة . سيؤثر في مساحات النفوذ والمصالح الجيوسياسية الخاصة بهما في الشرق الاوسط تحديدا . في وقت اصبح فيه التحرك نحو الامام ضرورة حتمية لابد منها للمحافظة على مصالحها الاستراتيجية من جهة , ولخلق مناطق يمكن ان تشكل لها بعض الامان الاستراتيجي ولو بشكل مؤقت من جهة اخرى . حتى وان كان ذلك يعني تعاونهما المباشر والصريح في قضايا الشرق الاوسط . وبالطبع فان ذلك لا يعني غياب الخلافات بين الجارين اللدودين، وآخر دليل اندلاع معارك بين أنصار الجانبين من الأكراد في سنجار على الحدود السورية-العراقية. لكن مسارات النزاع وأبعادها الدولية تدفع الطرفين إلى الحذر حتى لا يتحول التجاذب على صفيح الشرق الأوسط إلى ما لا يخدم مصالحهما ) ([3])
وتعتبر تركيا وايران محاور جيوبوليتيكية مهمة في منطقة الشرق الاوسط , حيث تملك تركيا القوة العسكرية والبشرية والتقدم التكنولوجي والقوة الاقتصادية والرغبة الواضحة في النفاذ القاري الى مساحات النفوذ والسلطة والقوة في اوقات الفراغ الجيوسياسي . في المقابل تمتلك ايران القوة العسكرية والبشرية والمساحة الجغرافية رغم الضعف الاقتصادي . وهي بالفعل حاضرة بكل قوة في كل من العراق وسوريا ومنطقة الخليج العربي على سبيل المثال لا الحصر. بحيث يمكن التأكيد على ان كل منهما سيناضل من اجل المحافظة على ما حققه من اوراق رابحة سواء كان ذلك على المستوى السياسي او الامني او عبر توسع دائرة المصالح الجيوسياسية والتحالفات الجيواستراتيجية في الشرق الاوسط .وستندفعان اكثر فاكثر نحو شراكات ثنائية مع بعضها البعض او ثلاثية مع روسيا . مع مراعاة اتفاقيات الشراكة والتعاون مع العديد من الدول في مناطق التأثير السياسي والاستراتيجي ” الدول المحورية”.
ومن الواضح ان كل من الولايات المتحدة الاميركية وروسيا تدركان تمام الادراك تلك المساحة المكتسبة من القوة والسلطة والنفوذ التي تملكهما كل من تركيا وايران في منطقة الشرق الاوسط , بالرغم مما يبرز بين الحين والاخر من سلوكيات وتصرفات سياسية . يغلب عليها حالات الصدام وما يشاهد من سيناريوهات الضغط والعقوبات ومحاولات احتواء الولايات المتحدة للجمهورية الايرانية عبر تضييق الخناق عليها . وكذلك بالنسبة لتركيا في اوربا او في بعض مناطق نفوذها من خلال نفس السياق والضغوط ومساعي الاستبعاد .
الا ان ذلك لا يمكن ان يخفي مساحات الالتقاء والتفاهمات سواء ما كان منها مرئيا للجميع . او خفيا في قضايا ومصالح اخرى بين كل من الولايات المتحدة الاميركية من جهة , وتركيا وايران من جهة اخرى . لذلك يقول بريجنسكي من انه ولأجل ( تنمية الاستقرار والاستقلال في جنوب القفقاس واسيا الوسطى – وفي الشرق الاوسط على وجه التحديد – ينبغي على امريكا , ان تحذر استبعاد تركيا , كما ان عليها ان تستطلع امكانيات تحسين العلاقة الاميركية الايرانية ) ([4])
اما بالنسبة لروسيا فيلاحظ اختلاف واضح في نظرية التعامل والاحتواء لكل من تركيا وايران , فهي فضلت التعاون المباشر وتقاسم الهيمنة كبديل للصدام والتفرد المركزي , وهي بذلك ستكسب من جهة حلفاء لهم من القوة النفوذ الكثير في منطقة الشرق الاوسط , وشركاء في نظرية احتواء القوة الاميركية وحلفاءها في ذات المنطقة من جهة اخرى. على اعتبار ان ذلك هو الاختيار الجيواستراتيجي الانسب امامها في ظل الظروف والمتغيرات الدولية الراهنة . وهو ما حصل بالفعل في سوريا والعراق على سبيل المثال لا الحصر . حيث وجدت في التعاون الثلاثي بديل للصدام والمنافسة رغم وجود بعض الاختلافات في وجهات النظر حيال بعض القضايا السياسية والاقتصادية ذات الاهتمام المشترك .
ونستنتج مما تقدم ( ان روسيا في سعيها نحو المنطقة العربية – ولا سيما منطقة الخليج- قد ابتعدت عن الاسلوب الايديولوجي الذي كان الاتحاد السوفيتي السابق ملتزم به , وهو ما يعني ان تغيرا واضحا وبدرجة كبيرة طرا على السياسة الروسية منذ انتهاء الحرب الباردة يقوم على معيار المصلحة … فروسيا تحاول خلق علاقات متوازنة مع جميع الاطراف في منطقة الخليج سواء دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية او العراق او ايران )([5])وكذلك الحال مع القوة التركية التي لا شك ان الروس يدركون تمام الادراك مكانتها الاستراتيجية ومدى نفوذها وقوتها على رقعة الشطرنج الشرق اوسطية . وقد شهد العام 2017 تقارباً كبيرا بين تركيا ورسيا نتج عنه اكثر من 5 لقاءات على مستوى الرؤساء , والتوقيع على اتفاق لتوريد منظومة إس 400 الصاروخية الروسية لتركيا وتأسيس صندوق استثماري مشترك واتفاقية مع تركيا بشأن خط أنابيب الغاز “التيار التركي”، وكذلك تم مباشرة أعمال بناء محطة الطاقة النووية في منطقة أكويو بولاية مرسين الواقعة على البحر الأبيض المتوسط .
على ضوء ذلك وكما يؤكد زبغينيو بريجنسكي من ان مستقبل الشرق الاوسط واسيا الوسطى ( يمكن ان يصاغ في نهاية المطاف نتيجة لظروف اكثر تعقيدا . وسيتوقف فيها مصير دولها – وكذلك مستقبل الاستقرار والامن – على التفاعل المركب للمصالح الروسية والتركية والايرانية والاميركية )([6]). وهو ما يؤكده في نفس السياق دافيد بتاشفيلي المسؤول السابق في مجلس الأمن القومي الجورجي. ففي مقال نشرته صحيفة جيروزاليم بوست قال : ( بأنه ما لم ينته الأمر بإيران بحرب كارثية مع الولايات المتحدة فستبقى إيران وتركيا أبرز قوتين إقليميتين في المستقبل المنظور، وسيحدد الصراع والتنافس بينهما التطورات الدولية والإقليمية في الشرق الأوسط )([7])
محمد بن سعيد الفطيسي والمقال لرأي اليوم
[1] – د. كامران احمد محمد امين ,السياسة الدولية في ضوء فلسفة الحضارة ,- دراسة تحليلية نقدية – دار المعرفة , بيروت / لبنان , ط1/2009م
[2] – زبغنيو بريجنسكي , الفوضى – الاضطراب العالمي عند مشارف القرن الحادي والعشرين – . ترجمة : مالك فاضل , الاهلية للنشر والتوزيع , بيروت / لبنان , ط1/1998م