فيما يبدو أنه سعي حثيث لإحياء الرغبة التركية القديمة-الجديدة منذ اندلاع الأزمة السورية في إقامة منطقة حظر جوي في الشمال، بدأت هذه الأولى عملية عسكرية مع الجيش السوري الحر بهدف إقامة منطقة آمنة بعمق ثلاثين كيلومتر في سوريا حسب ما صرح بذلك رئيس الوزراء بن علي يلدريم
ففي شكلها المعلن فالعملية كما تقول أنقرة هي ضد قوات حماية الشعب الكردية، والتي تصنفها تركيا كجماعة إرهابية وتعتبر الفصيل بأنه الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، الأخير الذي يشن تمردا على السلطات التركية في جنوب شرق البلاد منذ نحو ثلاثين عاما، وتصنفه تركيا والدول الغربية تنظيما إرهابيا، لكن الولايات المتحدة تدعمها عسكريا بصفتها رأس حربة في المعارك ضد تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا بل إنها قامت بتدريب وتسليح ثلاثين ألفا من هذه القوات بدعوة محاربة الدولة الإسلامية هناك وهي النقطة التي أغضبت الأتراك بشدة.
الغريب والنقطة الملفتة للانتباه هي ردود فعل مختلف القوى الكبرى على هذه العملية، حيث قوبلت لحد الآن بصمت أمريكي رغم أنها تستهدف أكبر حلفاء واشنطن على الأرض السورية أي وحدات حماية الشعب الكردية.
الروس هم الآخرين اكتفوا بالتعبير عن قلقهم، لكن الموقف أقرب إلى ضوء أخضر بالمقارنة مع المواقف السابقة فيما يخص الأزمة، الأكثر من ذلك أن لوم الأخيرة لم يكن لتركيا وإنما كان لأمريكا التي اتهمتها بالتسبب في إغضاب الأتراك بعد قرار احتضان وتسليح الجماعات الكردية.
المواقف الأخرى للقوى الأخرى لم تكن أكثر أهمية من الأولى، إذ قوبلت بتحفظات ممزوجة بدعوات محتشمة لوقف العمل العسكري لكل من فرنسا وبريطانيا وألمانيا ، لكنها أقرب إلى غض للطرف، وكانت أكبر ردود الفعل الرافضة من الأسد لكنها لم تتجاوز حد الإدانة بترديد نفس العبارات التي مافتئ الأخير يرددها ضد تركيا منذ اندلاع الأزمة.
الوضع يبدو ضبابيا لحد الآن، لكن الواضح أن الأحداث تتصاعد على نحو مقلق ومثير للغاية، فيما يبدو أنه دنوا لمرحلة الاصطدام الوشيك بين –الكبار- ، خاصة بعد فشل كل الوصفات الدبلوماسية، و انسداد كل السبل الممكنة للوصول إلى الحل السياسي، مادام أن كل طرف متشبث بمواقفه ورؤيته الخاصة للحل والطريقة التي يجب أن يكون عليها..
أردوغان الآن في وضع داخلي وخارجي مريح نسبيا سواء من خلال حصوله على دعم وضوء أخضر من المعارضة للإصلاحات والإجراءات الهيكلية المتخذة، أو حتى خارجيا من خلال إعادة تطبيع العلاقات مع كل من روسيا وإسرائيل وإيران، وهو يؤهله نسبيا للقيام بالخطوة، لكن هذا لا يعني القدرة الاستمرار دون الحصول على دعم صريح من خطوة التدخل البري في سوريا خاصة من الحلفاء الغربيين خاصة من الحلف الأطلسي.
ويبقى الثابت الآخر أن التدخل التركي المباشر وضع حليفها الأمريكي أمام الأمر الواقع وجعل الأمور تأخذ منحى جديدا، خاصة وأن الأخيرة تسعى لتدارك الأمر ولو بشكل محتشم لإعادة جو الثقة المنهارة للعلاقات بين البلدين، فالتصريحات المكررة من الإدارة في واشنطن والزيارات التي قامت بها شخصيات عسكرية ومدنية على أعلى مستوى لأنقرة في مساعي لتبديد الغيوم واستعادة جزء من التوازن لم تفلح في إخماد الغضب التركي.
الصمت الأمريكي يعني مرة أخرى أن أمريكا تخلت على حلفائها الأكراد، بما يبدو ظاهريا أن واشنطن فهمت بشكل سريع أن عليها التضحية بحليفها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي إذا ما كانت لها الرغبة في استعادة ونيل ود الحليف الأهم والأكبر أي الحليف التركي، خاصة وأن الأخير بات يرى في الدعم الأمريكي للأكراد تهديدا جديا للأمن القومي التركي وبالتالي على واشنطن الإعلان عن حسن نيتها من الأمر قبل خسارة أنقرة.
الاطمئنان على الموقف الروسي بعد عودة الأمور إلى مجاريها في علاقات البلدين لا يعني أن المجال خالي أمام أنقرة لتوسيع العملية البرية لما وراء العفرين وبالتالي عليها انتظار الصيغة التوافقية لما بعد ذلك .
فحسابات روسيا هي الأخرى ذات طابع استراتيجي ومرتبطة كذلك بالأمن القومي الروسي، لذلك فقد كانت دوما في سعي حثيث لتكون الطرف واللاعب الأول في المعادلة، وبالتالي تريد أن تكون الطرف الأساسي في أي صيغة للنزاع على اعتبار أنها من يملك الجزء الأكبر من مفاتيح الحل، خاصة وأنها تمكنت بفضل سياستها في الأزمة من ملأ الفراغ الأمريكي الناتج عن الاحتراز والتحفظ المستمر من النزاع منذ اندلاعه.
الموقف الإيراني الرسمي من التدخل التركي لا يزال يكتنفه الغموض في ظل غياب أي تصريح رسمي حول العملية البرية، وإن كان بالطبع سينظر بعين الريبة والشك من الأمر اللهم إلا إذا كانت هناك توافقات مسبقة للعملية وهذا وارد جدا بالنظر إلى حجم اللقاءات والزيارات المنعقدة بين الجانبين مؤخرا على أكثر من مستوى وصعيد.
فالأكراد و”الدولة الاسلامية” يشكلان تهديدا مشتركا للأمن القومي للدولتين وبالتالي يمكن الانطلاق من الصيغة كأساس توافقي للوصول إلى الحل في النقط الأخرى، وحتى العقبة الأكبر بين الطرفين أي مصير الأسد فيمكن الوصول أي صيغة حوله هو الآخر، إذ لا نعتقد أن الإيرانيين بتلك السذاجة التي تجعلهم يتشبثون بورقة محروقة بل وأصبحت مكلفة للغاية لهم إذا ما حصلوا على ضمانات تحول دون فقدان مصالحهم الحيوية والإستراتيجية في البلد.
وفي خضم الغليان السياسي والحركية الدبلوماسية التي تشهدها الساحة الإقليمية والدولية، والتي توحي معه أن الأمور ستكون أكثر تعقيدا خلال المرحلة المقبلة، إذ كل المؤشرات تدل على أنها تتجه نحو المواجهة العسكرية المباشرة فيما بين القوى المتورطة في الملف بدل -الحرب بالنيابة- التي عليها الآن.
لكن ماذا لو كانت معركة العفرين ذلك الطعم الذي لطالما سعى أعداء وخصوم تركيا لتلقفه؟، وبما يوقع أردوغان في مصيدة لطالما تباهى بأنه أكبر وأحذق من أن تسقطه؟.
هو سؤال مشروع ويمكن لأي إجابة بنعم أن تقلب كل المعطيات السالفة رأسا على عقب؟، خاصة وان القاسم المشترك بين القوى الكبرى هو السعي لتقليم أظافر تركيا قليلا وتقليص حجم تأثيرها المتزايد يوما بعد يوم وهو مالا تخفيه بأي حال من الأحوال؟.
بما يعني أن أي أمر من هذا القبيل يمكن أن يجعل من لعبة التوازنات على الجبهة السورية تصل لمرحلة كسر العظام، وبما يعني مرة أخرى أن حجم التصعيد سيرتفع بوتيرة أعلى، سواء على مستوى الكم أو حتى الكيف، وهذا ما قد ينبئ بتطورات ومفاجئات غير منتظرة خلال الأيام المقبلة.
إبراهيم حياني التزروتي- المقال لرأي اليوم