إدوارد سعيد ونُحاة قرطبة/ صبحي حديدي
في كتابه «العالم، النصّ، والناقد»، 1983، يطرح إدوارد سعيد سلسلة من الأسئلة حول إمكانية معالجة النصّ وظروف إنتاجه الواقعية على نحو منصف يتعالق مع مشكلات اللغة الأدبية، دون أن يبترها بعيداً عن مشكلات لا تقلّ إلحاحاً، تخصّ لغة الحياة اليومية، الدنيوية. إجاباته كانت مفاجئة، وثاقبة تماماً، فضلاً عن كونها رائدة ضمن نطاق التنظير النقدي الأمريكي، وربما الأنغلو ـ سكسوني بأسره، خلال تلك الحقبة: العودة إلى النُحاة والفلاسفة واللغويين المسلمين في قرطبة القرن الحادي عشر، ابن حزم وابن جني وابن مضاء القرطبي. ودون إبطاء، يوضح سعيد أنّ الثلاثة انتموا إلى المذهب الظاهري الذي يرى أنّ للكلمات معنى ظاهرياً فقط، مقترناً باستخدام محدد، وظرف، وموقف تاريخي وديني؛ على نقيض المذهب الباطني، الذي اعتبر أنّ المعنى في اللغة خافِ طيّ الكلمات، ولا يُعرف إلا بتأويلها من الداخل.
غرض سعيد الأوّل، من هذه العودة إلى نحاة قرطبة وفلاسفتها، كان ــ في تقديري، شخصياً ــ تثمين الفكر اللغوي العربي الكلاسيكي؛ خاصة في سياق السجالات (الطاحنة، يومذاك) بين النحو البنيوي كما مثّله السويسري فرديناند دو سوسور، والنحو التحويلي التوليدي عند الأمريكي نوام شومسكي. وفي العمق من هذا الغرض يكمن سجال سعيد ضدّ البنيوية وما بعد البنيوية والتفكيكية، وسواها من المدارس النقدية التي استهدفت ترحيل المعنى إلى مناطق تجريد صرفة، حيث يتوجب أن تضمحلّ روابطه مع التاريخ والواقع، ومع دنيوية النصّ على وجه التحديد. يكتب سعيد: «ما يتوجّب أن يشدّ انتباهنا بقوّة في هذه النظرية بأسرها أنها تمثّل أطروحة عالية الإفصاح حول معالجة النصّ كصيغة ذات مغزى ــ حيث دنيويتها وظرفيتها، وحال النصّ كحدث واقع حامل لخصوصية محسوسة واحتمالية تاريخية ــ تُعتبر جميعها داخلة في النصّ وجزءاً لا يتجزأ من طاقته على نقل المعنى وإنتاجه».
الغرض الثاني أوضحه سعيد بنفسه حين شدّد على جذور الخلاف بين النحاة الظاهريين والباطنيين، وعوامل استقرار المذهب الأوّل في قلب فلسفة اللغة عند ابن رشد وابن جنّي وابن مضاء؛ أي قراءة القرآن، وكيفية فهمه وتناقله وتعليمه للأجيال بوصفه نصّاً له صفة الحدث، بل «الحدث الفريد» على غير شاكلة الكتاب المقدس كما يقول سعيد. الظاهريون هاجموا إفراط الباطنيين في التأويل، وساجل ابن مضاء أنه «من العبث ربط النحو بأيّ منطق للفهم، ما دام النحو كعلم يفترض، وغالباً يذهب بعيداً إلى درجة ابتداع، سلسلة أفكار عن استخدام معنى الكلمات، تفترض وجود مستوى خفيّ طيّ الكلمات، لا يدركه إلا العارفون». وفي لغة ابن مضاء نفسه: «حرام الإجماع على أنه لا يُزاد في القرآن لفظ غير المجمع على إثباته، وزيادة المعنى كزيادة اللفظ، بل هي أحرى، لأنّ المعاني هي المقصودة، والألفاظ دلالات عليها، ومن أجلها». جدير بالذكر هنا أنّ سعيد اعتمد على تحقيق شوقي ضيف لكتاب ابن مضاء القرطبي «الردّ على النحاة»، المطبوع في القاهرة سنة 1947؛ وكذلك على كتاب أنيس فريحة «نثريات في اللغة»، 1973.
هذا الغرض الثاني يستكمل انحياز سعيد، القاطع والكفاحي والمشبوب في تلك الفترة من حياته، لصالح مفهوم «النقد العلماني» ضدّ «النقد الديني»؛ وهو النقاش الذي يستغرق جلّ المقدّمة في مقالات «العالم، النصّ، والناقد»، ويؤسس أيضاً للأفكار الجنينية الأولى حول مفهوم سعيد عن «القراءة الطباقية». وفي اقتباس نحاة قرطبة المسلمين يشدد سعيد على إطارَين يتجسد فيهما فعل الكتابة: أنها تنقلب إلى قوّة مادية، ليس اعتماداً على واقعة ولادة الكتابة وانتشارها وتأثيرها وتأثرها وتأويلها، فحسب؛ وليس، أيضاً، لأنها تمثّل عالماً ما وتشتغل فيه عبر وظائفها المختلفة؛ بل لأنها، من جانب ثانٍ، ذات وظيفة مجتمعية، وليس اجتماعية فقط، تقع ضمن سياقات مكانية وزمانية، وتنتمي إلى مؤسسات أيديولوجية وتاريخية مختلفة.
ولعلّ الفقرة/ المفتاح في الدخول إلى عرض سعيد لمفهوم النقد العلماني، هي تلك التي تقيم الصلات بين النصّ والعالم، وتشخّص دنيوية الكتابة أياً كان موقعها أو طرائق استخدامها. يكتب سعيد: «الأمر هو أنّ النصوص لها طرق في الحضور، حتى أنها في أقصى أشكالها تشيّؤاً تظلّ متورطة في ظرف ما، وزمان ومكان ومجتمع، وهي باختصار قائمة في الدنيا، وهي لذلك دنيوية. وسواء حُفظ نصّ ما أو نُحّي جانباً خلال فترة محددة، أو وُضع على رفّ مكتبة أم غاب عنه، واعتُبر خطيراً أم لا؛ فإنّ هذه المسائل ذات صلة بحضور النصّ في العالم، وهذه مسألة أكثر تعقيداً من سيرورة خاصة في القراءة. الإشكاليات ذاتها صحيحة، بلا ريب، حول النقاد في صفاتهم كقرّاء وكتّاب يعيشون في العالم».
وبذلك فإنّ تثمين نحاة قرطبة كان يتوخى التذكير بتراث عريق، استبق محاولات عصر النهضة من حيث عَقْلَنة أنظمة قراءة النصوص، والنأي عن طرائق التركيز على مفردات مفتاحية بعينها تطغى على المعنى أو تصادر دلالاته المتضاعفة.
«لقد ذهب ظاهريو قرطبة إلى مدى جدّ بعيد في محاولة توفير نظام للقراءة يمارس أضيق سيطرة ممكنة على القارئ وظروفه. ولقد فعلوا ذلك، أساساً، عن طريق نظرية تتوسل تبيان معنى النصّ»، كتب سعيد.
132 تعليقات