نحو قراءة واقعية لتاريخنا العربي بعد مئة عام على رحيل العثمانيين
على ظهر دارعة بريطانية في بحر إيجه وقّع ممثلو الباب العالي في 1918 على استسلام القوات التركية إلى الحلفاء، وعلى التصفية التامة للإدارة التركية في لبنان وسورية وفلسطين والعراق والحجاز واليمن، ما وضع حداً لأربعة قرون من الجور والاستبداد والتخلف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في ظل السلطنة العثمانية. ففي هذه القرون العجاف استنفد النهب الإقطاعي الاقتصاد الفلاحي بصورة فظيعة، فأُخليت القرى من سكانها وأصبح أكثر من نصف الأراضي في عداد الأراضي الموات، وتكرر ظهور المجاعة مع مر الزمن. حتى أنه في إيالة حلب لم يبق في نهاية القرن الثامن عشر سوى أربع مئة قرية من بين 3200 قرية في القرن السادس عشر. أما الصناعة فكانت متأخرة جداً قياساً إلى الصناعة الأوروبية، فيما كانت طرق المواصلات بائسة، والقوافل التجارية تنهب من قبل عصابات اللصوص، وفيما كان القضاء والإدارة يعانيان من فساد مقيت.
إلا أن الأحكام والتأويلات بصدد المرحلة العثمانية ظلت موضع لبس وتناقض كبيرين على مدى المئة سنة الماضية بعد رحيل العثمانيين. فقد تم الخلط والمماهاة بين العثمنة والتتريك، خلط ومماهاة أسّسا لاستنتاجات سياسية وقومية وعلمانية، مغايرة للواقع التاريخي ولحقيقة تعامل المثقفين العرب مع الدولة العثمانية. من ذلك على سبيل المثال ما ذهب إليه محمد عابد الجابري من ترابط بين القومية العربية والوحدة والعلمانية، وبين الاستقلال عن الترك عند متنوري عصر النهضة العربية وفي مقدمهم بطرس البستاني، أو ما تصوره عبد الإله بلقزيز من علاقة بين هجرة المسيحيين الشوام إلى القاهرة، والتزام هؤلاء علمانية ضاق بها صدر الدولة العثمانية.
لكن العلمانية كما طرحها النهضويون، وبخاصة المسيحيين – الشدياق، البستاني، المراش، إسحاق، أنطون، الشميل – لا تستند إلى أية خلفية قومية. فلم تكن القومية العربية قد وجدت بعد، وعندما وجدت لم تكن ذات تصور علماني، ولا قامت على المثقفين المسيحيين، ولم تكن هناك صلة بين القومية العربية وبين الطوائف على نحو ضروري. وكان العرب يتصرفون بوصفهم عثمانيين، فالاعتقاد بأن الناطقين بالضاد يشكلون أمة يجب أن تستقل وتتحد، لم يكتسب قوة، في رأي ألبرت حوراني، إلا في القرن العشرين. فبطرس البستاني حظي في مجلته «الجنان» وفي مدرسته «الوطنية» بدعم العثمانيين ومساعدتهم، انطلاقاً من وحدة الدولة العثمانية المتعددة القوميات والأديان، حيث الجمع بين الوطنية السورية وبين المواطنة العثمانية يشكل الطابع الغالب على التنويريين العرب، ويمكن إدراجه في إطار الخطاب السياسي للعثمانيين الجدد. وباستثناء عبد الرحمن الكواكبي ورزق الله حسون أكّد النهضويون العرب حرصهم على الجامعة العثمانية حتى أعوامها الأخيرة. ففي المؤتمر العربي الأول في باريس في 1917 أعرب الخطباء عن تمسّكهم بالوحدة العثمانية، مع إصرارهم على الإصلاح واللامركزية وحفظ حقوق العرب من مسلمين ومسيحيين. وبين شهداء أيار(مايو) 1916 الذين أعدمهم جمال باشا، كان هناك من ينضوي في هذا الاتجاه التوفيقي الذي يدين بالإخلاص للأمة العربية والدولة العثمانية معاً. حتى أن جرجي زيدان ذهب إلى حد تبرير الحكم العرفي الذي لولاه «لتمزقت المملكة العثمانية … فهذا الحكم كما يقول، لا بدّ منه في حفظ الدستور العثماني حتى يترسخ وتتمكن قواعده وتتآلف القلوب … أما الدستور الحر المطلق كما في الدول المرتقية فلا نستحقه إلا بعد زوال أسباب الفساد».
ولم يكن زيدان ليصر على الجامعة العثمانية إلا لأن العرب كانوا موالين للسلطان «الخليفة» طوال الحكم العثماني، على رغم الكره والنفور المتبادلين بين العرب والترك. فالأتراك والبربر والأكراد والمغول واصلوا، وفق محمد الحداد في دراسة حديثة، المنطق الداخلي للحضارة الإسلامية التي لا يمثل العنصر العربي فيها إلا جزءاً من كل. والعصر العثماني هو بهذا المعنى عصر تواصل وليس عصر قطيعة واستيلاء عرقي أجنبي على مشروع عربي، لأن النظام العثماني يندرج في صلب الثقافة الإسلامية.
سياقة هذه الحقائق ليس هدفها الانتقاض من فكرنا التنويري ودوره التاريخي في صوغ توجهاتهنا الإيديولوجية المعاصرة، بل الحض على قراءة تاريخنا وفكرنا التاريخي، قراءة واقعية تفيد من عبره، عبر تجاوز الخلل الذي أربكه، والتطلع إلى الأمام في طريقنا إلى عالم جديد من دون أن نتوسل تزييف التاريخ لتكييفه قسراً مع إيديولوجياتنا.
كرم الحلو- كاتب لبناني والمقال للحياة