«الكاوتشوك الفلسطيني» … وضوح الرؤية وسط الدخان
الأسلاك الشائكة التي تفصل قطاع غزة عن الجيش والقناصة الإسرائيليين تكتب قصة مُدهشة هذه الأيام، عنوانها «لم يمتُ الكبار ولم ينسَ الصغار». في غيوم الدخان الكثيف المنبعث من أرتال إطارات «الكاوتشوك» بدا وكأن الحدود التي صنعها المحتل في فلسطين انمحت واختفت. الفتيان الذين كان من المُفترض أن يكونوا قد نسوا، يزحفون على الأرض التي أحبوها غارسين أكواعهم وأقدامهم في التراب المُتحالف معهم. يصلون إلى الأسلاك البشعة، وبأيديهم الصلبة يشدونها لأسفل. وراءهم كان هناك كبار سن، أجداد وجدات، يجرون بعضهم بعضاً، وكان من المُفترض أن يكون هؤلاء قد ماتوا من زمن طويل بحسب الروزنامة الإسرائيلية. الكبار كانوا يريدون إلقاء نظرة الحب السرمدية على أراضيهم وقراهم التي تنفسوها صغاراً وطردوا وهجروا منها كباراً، وبقيت هناك على الجانب الآخر من الأسلاك الشائكة. والشبان والشابات الجدد كانت عيونهم تشتاق لاحتضان الارض نفسها التي انتقلت إلى وجدانهم مزنرة بقصص وحكايا آبائهم وأمهاتهم وأجدادهم وجداتهم، وصارت منسوجة في أعماق وعيهم. بعيداً من الأسلاك وعلى الجانب الآخر كانت أسلحة الجيش المغرور قد أصيبت وشُلت في أعمق نقطة في داخله. ضباطه يراقبون كيف تحولت سواعد الشبان إلى محاريث تنهل الأرض وتزيل الأسلاك وتُخرس المدافع.
في قلب جبال ذلك الدخان الأسود الكثيف كان ثمة وضوح أبيض كالثلج. وكان ثمة إعادة لروح الناس الطيبة، يقودهم السخط والثورة إلى اجتراح صور مبدعة في الرفض والمقاومة، وإعادة تسطير القصة. في قلب السواد ذاك كتبت غزة وأهلها ومنتفضوها فصلاً مقاومياً مُذهلاً في وجه جبروت الآلة العسكرية لعدو باطش. لو كان ثمة مساحة إضافية لأساطير الفينيق والإغريق والرومان لسُطرت أسطورة جديدة وطازجة تخلد سواعد الغزيين وهي تخلع الأسلاك الشائكة وتطرد دبابات الجيش المغرور كأنها الذباب.
بيد أن المفارقة تكمن في أن جوهر أسطورة الأسلاك والدخان لا جديد فيها! جديدها المُبدع هو قديمها غير الممل، وإصرارها الطازج على أن سردية فلسطين لا زالت تُعيد إنتاج روحها الرافضة بنفس الحرارة والسخونة التي عاشها الكبار وتلقفها الصغار. قادة إسرائيل سواء الأوائل أو الأواخر قالوا وراهنوا على أن الجيل الفلسطيني الذي شهد النكبة وتجرع مراراتها سوف يكبر في المنافي ومخيمات اللاجئين، سوف يظل متأرجحاً بين حدي الأمل المغدور والعجز الفظيع، ثم لا يلبث أن ينتهي ويموت. أما جيل أولادهم فسوف يكبر في دوامة الفقر واللجوء والعوز، ثم تجرفه الحياة بجبروتها واحتياجاتها، وهذه تسلمه بدورها إلى النسيان كي يبلعه ويمضغه ويلفظه كائناً لا طعم ولا ذاكرة له. وما بين موت الكبير ونسيان الصغير تبهت فكرة الصراع مع السارق وتصير عملية السطو التاريخي على ارض شعب وطرده وتشريده تفصيلا من تفاصيل العالم المزدحم بقضايا «أكبر». وهكذا، فإن دولاب الحياة الطاحن ومساراتها وضغوطاتها وحسابات الربح والخسارة فيها، كما توق الناس إلى تحقيق أحلامهم الصغيرة والكبيرة لن يبقي لهم الكثير من الوقت والاهتمام والصبر لمواصلة «النضال». كان هذا هو التحليل لما ستؤول إليه الأمور على قاعدة أن الوقت هو الحليف الدائم لعملية السطو تلك، تحليل مباشر ومادي يقود إلى تلك النتيجة الواحدة والمأمولة: «يموت الكبار وينسى الصغار». ولا تنسى تلك النتيجة تفصيلا مهماً على الهامش يقول إن مناصريهم، عرباً ومسلمين وشرقيين وغربيين، هنا وهناك سوف يقتلهم الضجر من «القضية» وتجرفهم اهتماماتهم الضاغطة وبالتالي يرفعون أيديهم تدريجياً عنها وعن أصحابها.
لا يخلو هذا التحليل من منطق، ورفضه كله دفعة واحدة يخرج المرء من مسار التفكير العقلاني. لكن في الوقت ذاته تظل مفردات التحليل التنبئي والاستشرافي في السياسة وأمزجة الشعوب تحديداً مكشوفة لتلقي صدمات وصفعات. تأتي المفاجآت من وقوع ما لم يُتوقع، وعدم وقوع ما تُوقع. فلسطينياً، بدا وكأن الكبار لا يموتون، فيما تأكد أن الصغار لا ينسون. من يوم النكبة بل وحتى ما قبلها امتنع الآباء عن الموت والصغار عن النسيان. تتالت مراحل الرفض ولم تتوقف بسبب فداحة اختلال ميزان القوى ومناصرة القوى الغربية إسرائيل، وتتالت معها حقب العناد التي لم قوضت معادلة الرياضيات الإسرائيلية تلك. في فترات خادعة بدت تلك المعادلة وكأنها التقطت أنفاساً وصارت تشتغل، وما إن عادت تطل برأسها حتى جاءت الانتفاضة الأولى في أواخر عام 1987. تهشمت المعادلة تلك وتنبؤها بأن الفلسطينيين حُشروا في زوايا مطاردة رغيف الخبر وأولويات الحياة في مخيمات اللجوء والبؤس التي أُلقوا فيها، وأن كبارهم يموتون وصغارهم ينسون. جاءت الصفعة من المكان الأكثر تعرضاً للبؤس والفقر، وأيضاً للاختراق الإسرائيلي ونشر العملاء: غزة. ومن هناك انتشرت الانتفاضة الشعبية وتجسدت وتمثلت الاسم الذي أطلق عليها «انتفاضة» حيث انتفض الشعب ونزل إلى مواجهة المحتل المدجج بالسلاح. كانت ولا زالت عدالة القضية وفداحة الظلم الطويل هي وقود المُنتفضين، كما هو تاريخ البشر الذين يؤمنون بالكرامة والثورة على الظلم. تمددت الانتفاضة إلى الضفة الغربية وانتقل جزء من روحها حتى إلى فلسطين الداخل وقلبت حسابات إسرائيل وأعادت وضع فلسطين على أجندة العالم.
كلما حاولت تلك المعادلة أن تُعيد إنتاج ذاتها وتأمل أن جيلاً انقضى وأجيالاً جديدة نشأت وكلاهما أُنهك إما بالموت أو النسيان، تأتي صفعة جديدة لهذه المعادلة. وهذه الأسابيع، أسابيع «مسيرة العودة» الستة التي تعلنها مخيمات ومدن وناس قطاع غزة حتى منتصف الشهر القادم حيث ذكرى «النكبة»، تكتب تفاصيل الصفعة على امتداد كيلومترات الأسلاك الشائكة، أو «السلك» كما يصفه الغزيون. خجل «السلك» يوم الجمعة الماضي من بشاعته، من رؤوسه المدببة وهي تنغرس في أيدي الشبان الغاضبين وسواعدهم، تمنى لو تحول إلى أغصان زيتون أليفة تحضن فلاحين يشذبونها بالحب وأغاني الميجنا. أما في السماء، فقد كان الدخان الأسود الكثيف قد تحول إلى غيوم بيضاء ينعكس عليها ضوء الشمس فتصير الأمور أكثر وضوحاً. أما الذين يتحسرون على الفلسطينيين ويريدون لهم أن يستسلموا لقدر الهزيمة حتى لا يموتوا، أو أن يقبلوا بـ»أي شيء» لأن العالم كله غير مُنشغل بهم، أو لأن «أمنا أمريكا» منحازة تماماً لإسرائيل، أو يتصايحون اليوم عبر الهواتف والاجتماعات والنداءات بهدف «استعادة الهدوء» فإنهم لا يفهمون سوى معادلات الرياضيات المُضللة التي لا تنطبق على أمزجة الشعوب وروحها وانتفاضاتها. هؤلاء لا يرون في الدخان الأسود سوى سواده، صعب عليهم إدراك ما هو مُركب في الشعوب، ويألفون ما يقوله القوي والسيد ويتمتعون بالرضوخ له. كيف لهؤلاء أن يفهموا أن جبال الدخان الأسود المتصاعدة في قلب السماء وفوق خط الأسلاك الشائكة في قطاع غزة تجعل الرؤية أكثر وضوحاً؟ سؤال البداية هو سؤال النهاية لفظاً لكن فيه الجواب معنى ومضموناً.
خالد الحروب – كاتب وأكاديمي عربي والمقال للحياة