الصين وأسئلة الديموقراطية
يعرف السعوديون مدينة غوانزو الصينية، إذ يترددون عليها كثيراً، فهي مدينة المعارض التجارية والصناعية، ورجال الأعمال يعرفونها جيداً لأنها مركز مبيعات الجملة، لكنني لم أكن أمتلك هذه المعلومات الكافية قبل زيارتها، بل إنني لا أعرف الكثير عن الصين بأكملها سوى ما يصلنا من وسائل الإعلام، وبالتأكيد أعرف بعضاً من المعلومات عن مدينتي بكين وشانغهاي، ولذلك سألت أحد سكان المدينة عما يمكن أن أتوقعه ليساعدني على زيارتها، قال لي إن مدينتنا ليست مدينة كبيرة ولا تقارنها بالمدن الكبرى فسكانها لا يتجاوزون الـ10 ملايين نسمة. وهذا بالطبع رقم متواضع في بلد البليوني نسمة، لكن غوانزو أو كانتون كما كان يسميها الغربيون والتي تقع في جنوب الصين لم تكف عن تقديم مفاجآتها لي، الواحدة تلو الأخرى، بدءاً من المطار الضخم والعالي الفاعلية إلى الشوارع المنظمة والفنادق الفاخرة والحركة التجارية النشطة، هذه المدينة الصغيرة بالمقاييس الصينية لا تقل عن أي مدينة ناهضة في جنوب شرق آسيا أو حتى في الغرب، والقياس يمكن أن يكون مع هونغ كونغ أو سنغافورة أو بانكوك وصولاً إلى ميونيخ وروما ومدريد.
وعلى الجانب الآخر من العالم، جلس مدير معهد الصين في جامعة فودان الأكاديمي الصيني زانغ وي وي يتحدث عن أفكاره المثيرة للاهتمام حول النموذج الصيني للحكم في مقابل النموذج الغربي، كانت الجلسة التي عقدت أواخر العام الماضي (2017) في إطار مؤتمر نيكسوس في مدينة أسبن بولاية كولورادو الأميركية تحمل عنواناً مثيراً آخر هو: «هل تكون الصين بديلاً للديموقراطية الغربية»؟، والمحاورون الذين أحاطوا بالأكاديمي الصيني لم يكونوا من ذوي الوزن الخفيف، فكلهم من حملة الفكر السياسي العميق ولهم مؤلفات وحضور في المجالات الأكاديمية والسياسية والإعلامية، ومنهم الفرنسي بيرنارد هنري ليفي، والفنزويلي موزيس (موسى) نعيم، والبلغاري إيفان كراستيف، والبريطانية من أصل ليبي شاهة رضا (وهذه الأخيرة والدها هو خالد القرقني الذي عمل مستشاراً للملك عبد العزيز، وهي تتبنى مبادرة لنشر الديموقراطية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا).
الأكاديمي الصيني صعق محاوريه في بداية الحوار بالعبارة الآتية: «قبل ست سنوات قلت إن الصين والولايات المتحدة كليهما بحاجة ماسة لإجراء إصلاحات في أنظمتهما السياسية، ونحن في الصين نجري إصلاحات بشكل مستمر قد تكون صغيرة لكنها متصلة، المشكلة في النظام الأميركي أنه نشأ في مرحلة ما قبل الثورة الصناعية، وتنبأت حينها أنه من دون إجراء إصلاحات جذرية فإن الانتخابات الأميركية المقبلة ستنتج رئيساً أسوأ بكثير من جورج دبليو بوش».
ومضى يشرح النظرية الصينية في الحكم بقوله: «إنها تعتمد مبدأ الجدارة Meritocracy بديلاً لمبدأ الانتخابات الشعبية Democracy، والوصول إلى مقعد في اللجنة السباعية الحاكمة في الصين يتطلب أن يمضي المرشح فترتين على الأقل من حكم مقاطعة لا يقل عدد سكانها عن 100 مليون نسمة أو منصب مشابه، وأن يحقق إنجازات تنموية حقيقية على الأرض لمصلحة الإنسان والاقتصاد ورخاء العيش».
المحاورون لم يقصروا بمناقشته في حقوق الأقليات وحقوق الإنسان وحرية التعبير وحقوق التظاهر والاعتراض، لكنه كان صامداً في وجه هذه الأسئلة، حتى قال أحدهم: إنتم تعتمدون في نجاحكم على النهضة الاقتصادية، ولو لم تتحقق هذه النهضة لما كانت الصين شيئاً يذكر. والحقيقة التي يجب أن تقال أن النهضة الاقتصادية، وخروج العملاق الصيني من عزلة الشرنقة الشيوعية إلى منافس قوي في التجارة والسياسة والقوة العسكرية والعلوم والابتكار يجب أن يحسب لمصلحة هذه القدرة على إعادة ابتكار الذات، وليس استيراد مفاهيم جاهزة قد تتعرض للفشل الذريع كما فشلت في أماكن أخرى من العالم.
يبدو لي أن الإنسان يبحث دائماً عن نموذج العادل المستبد، والمسلمون تحديداً هم الأكثر تعلقاً بظهور هذا النموذج الذي يشابه الخلفاء الراشدين الأربعة وخامسهم عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنهم، لذا فإننا سرعان ما نتعلق ببعض الشخصيات الكاريزمية التي تظهر في عصر أو آخر ونضع في سلتها كل بيض آمالنا قبل أن تتحطم من جديد، ولكن يجب الاعتراف بأن النموذج الغربي في الديموقراطية بقي هو الأكثر صلابة واستدامة على مدى قرون، وأن الخلل الذي يعتريه أحياناً هو في الغالب بسبب سوء الممارسة الذي يسمح لشخصيات ديكتاتورية باستغلاله والبقاء على مقعد السلطة، أو ظهور شخصيات ضعيفة تصنع إعلامياً لكي تدار من القوى التي صنعتها وهي لا تقود ولكنها تقاد، هذا الخلل، وأكبر مظاهره في الغرب ضعف الإقبال على التصويت، يعني أن النظام لم يتمكن من معالجة الخلل، وأن أدوات المراقبة ليست دائماً بالمقدار ذاته من الفاعلية والقوة، أو أنها لا تساعد على معالجة القضايا الرئيسة للفرد والمجتمع. والسؤال بالطبع هو؛ لماذا يحتاج الفرد للتظاهر والاحتجاج إذا كان النظام قادراً على معالجة قضايا الأمن البطالة والركود الاقتصادي والتلوث وتوافر فرص العلاج والتعليم والغذاء بعدالة للجميع. إن النماذج الناجحة التي حققت مستويات عالية من العدالة الاجتماعية والتقدم والرفاه لمواطنيها، وخصوصاً في دول شمال أوروبا لا يعني بالضرورة أن النظام قابل للنجاح في جنوب أميركا أو في أفريقيا أو آسيا أو العالم العربي.
البحث عن نموذج الحكم الرشيد بقي متوقفاً بسبب تغلب النموذج الغربي وعمل قوى الغرب على فرضه على الشعوب بغض النظر عن إمكانات أو قدرات هذه الشعوب على تحقيق معدلات عالية من الممارسة الصحيحة. الصينيون وحدهم من سعى وقدم نموذجاً يمكن النظر إليه بتقدير، وهم أيضاً ليسوا متعالين في تقديم نموذجهم، فهم يقولون أننا مازلنا في طور التطوير المستمر والهادئ بناءً على ما يتحقق بالفعل من نتائج وبناءً على مقاييس أداء واضحة ومحكمة، ويقولون أيضاً إن نموذجنا ليس بالضرورة قابلاً للتصدير، ولكنه قابل للبحث والدراسة والتأمل.
المشكلة تكمن في أن الديموقراطية أصبحت هي الغاية وليست الوسيلة لتحقيق العدالة والرخاء والتقدم للشعوب.
سلطان البازعي – كاتب سعودي. والمقال للحياة
2 تعليقات