يُفاجئنا الأبناءُ أحياناً، بكلماتٍ حكيمة، آتيةٌ ربما من تجربةِ الأسلافِ أوْ من غَيَاهِبِ الإنترنيت. وقد لا نستمعُ إليها، مُفضلِين الاكتفاءَ بيقينِ المَثلِ الشعبي “اللي فاتكْ بْليلةْ فاتكْ بْحيلةْ”. هذا المثلُ الذي لا يُثْبِتُ إلا شيئاً واحداً.. شيئاً واحداً فقط، هو؛ إننا كمجتمعٍ، نَميلُ إلى المحافظةِ، أكثرَ مِما نُحب التغيير!
غيرَ أن الاستماعَ إلى مَنْ هُن أوْ هُمْ في سن الأبناءِ أو الأحفادِ، بالنسبةِ إلينا قد يكونُ مفيداً أكثر مِما نَتوقع. وهذا ما تَبَدى لي في جلسةٍ خارجةٍ عن مألوفِ “لزوم البيت القسري” الذي فرضتْهُ ابنتي اليافعةُ على نفسِها، لأسبابٍ موضوعيةٍ وأخرى ذاتيةٍ لا داعي لذكرها. لقد كانتْ جلسةً، كما قلتُ، غير روتينيةٍ لأنها جَرَتْ خارجَ البيت، وسادَ خلالها إحساسٌ عميقٌ بالظلمِ من قبلي ووعيٍ كبيرٍ بواقعِ الحال من جانبِها.
هكذا شبَّهتُ علاقتي بهذا الوطنِ بعلاقةِ امرأةِ برجلٍ يُعنفُها ويُهينُها ولا يحترمُها، وهي تستمر في عشقِهِ وفي العيشِ معه! حسب دُرتي؛ علاقتي بالمغرب علاقةٌ مَرَضيةٌ ومسمومة، علاقةٌ مازوشيةٌ لا تجلبُ لي سوى التعاسةَ، لذلك. عَلَي التخلصُ منها!
وبعد تحليلٍ مُستفيضٍ لقضايا هذا البلد، والوقوفِ على مَظالمِ “باك صاحبي” وعلى الفسادِ المستشري في جميعِ دواليبِ الدولة… وكذا بالنظرِ إلى كل مظاهرِ التفقيرِ والتضليلِ، وإلى منظومةِ الجهلِ والتجهيلِ اللتانِ تَنخران المجتمع، خَلصتْ إلى أن وطنَ الإنسانِ هو الذي يوفرُ له العيشَ الكريم، ويُبادلُهُ الحب والاحترام. وطنُ الإنسانِ هو حيثُ يشعرُ بالسكينة، وحيثُ يعملُ ويرى نتيجةَ عمله… وطنٌ لا يعترفُ بالألقابِ، ولا بالمظاهرِ، بل بالأعمالِ وبجوهرِ الإنسانِ وكرامته. وطنٌ حيثُ لا وجودَ سوى لمواطنين متساوين أمام القانون.
لا أدري لماذا تذكرتُ لحظتها، عبارةَ والدي رحمه الله، لمسؤول كبير “حَكرَ” عليه بسيارةِ الدولةِ في زمنٍ كان هناك ضوءٌ أحمرُ واحدٌ فقط، في شارع محمد الخامس بالرباط… حيثُ لم يغضبْ والدي من هستيريةِ “المسؤول” وسَبهِ له، بلْ نظرَ إليه، وبهدوءٍ قال: لا أتأسفُ عليك، ولا على مرؤوسيك، بل على بلادٍ فيها مسؤولون أمثالك”.
منذ الثمانينات، في العمقِ لم يتغيرْ شيءٌ! يا أبي، والحمدُ لله أنه أرجعك إليه قبل أنْ ترى مآل البلادِ التي عَشقتَها حتى النخاع، ومنحتَها كل حياتك إلى درجةٍ إحساسنا بالغيرةِ منها. ومنذ الخمسينات، لم يتغيرْ شيءٌ يا جَدي، أنتَ مَنْ حُكمتَ بالإعدامِ من طرفِ الاستعمارِ الإسباني ونُفِيْتَ إلى جزيرةِ النْكُورْ، ومع ذلك لم تقلْ حين لَحِقَكَ الظلمُ مباشرةً بعد الاستقلال سوى عبارةً واحدة، عبارةً تقطرُ بالفخرِ والأسى: لقد تحققَ ما كنتُ أقاتلُ من أجله (الاستقلال)، ولا يَهمني الآنَ مَنْ سيقودُ هذه السفينة!
لا يَا جدي، كان عليكَ أنْ تتأكد بأننا حصلنا على الاستقلالِ فعلاً، كان عليكَ أنْ تتأكد مِنْ أن مَنْ يقودُ السفينةَ لنْ يغرقَها، ولنْ يَجعلَنا أذلة. فَلَيغفر الرحمانُ الرحيم، لكَ ولَنَا، ولِيَحفظ ما تبقى مِنْ كرامتِنا. آمين.