في كتابه دراسة للتاريخ يفسر الفيلسوف والمؤرخ البريطاني ارنولد توينبي نشوء الحضارات الى نظرية التحدي والاستجابة . فيقول ان المجتمعات عندما تتعرض الى تحديات تكون استجابتها اما النكوص الى الماضي والسلف وهي الاستجابة السلبية . او تكون استجابتها ديناميكية حضارية تعتمد على التغيير والتطوير والابداع وهي الاستجابة الايجابية التي انتجت الحضارات المختلفة . وجعلت الانسان يتقدم ويتطور
واذا اخذنا بهذا المنهج في تقويم الثورات العربية التي سميت بالربيع العربي والتي جاءت كنتيجة للاحتلال الامريكي للعراق وتداعياته في المنطقة . نجد ان الاستجابة العظمى كانت سلبية . حيث انتكس اغلب المشاركين فيها نحو الماضي وتشبثوا به لعظم الصدمة التي واجهوها ولم يسعفهم اي فكر او ايديولجية بديلة لتعطيهم الدافع الحيوي للنهوض والتقدم فاخذوا يجترون افكار وعقائد السلف الصالح وغير الصالح واعتبروا كل ما قيل بهذا الصدد هو الدين نفسه وسفهوا عقائد الاخرين حتى لو كانوا من نفس اللون والفكر العام وخاضوا في تفاصيل تفرق ولاتوحد ، تقتل ولا ترحم ، تشيع الكراهية بدل الحب والاحترام المتبادل . وبالمقابل نجد الانظمة الرجعية الديكتاتورية وحرسها القديم يتمادون في العسف وتجاهل تطلعات الشعوب نحو التحرر والتطور اسوة بدول العالم المتقدم . فحكم محمد مرسي الذي جاء مع الاخوان هو حكم رجعي عاد بمصر الى عصور الظلام والسحر والشعوذة وغلق ابواب الادب والمعرفة والعلوم والفنون . وحجب مصر رجالا ونساء فالرجال اسدلت الستائر على اعينهم وفكرهم الحر الخلاق والنساء اصبحن خارج المجتمع بل خارج الحياة بحجة انهن عورة . ثم جاء الرئيس السيسي ليحكم مصر فاصبح نسخة معدلة من نظام حسني مبارك القمعي المتخلف
وفي تونس كانت الامور افضل قليلا فبعد فوز الاسلاميين بالحكم تخلوا عنه بعد وقت قصير وقبل ارتكاب حماقات العودة الى الماضي المتخلف وليس الماضي البهيج ماضي تونس الخضراء . وجاء القائد السبسي الذي حاول ان يقدم نسخة اصلاحية من نظام زين العابدين بن علي . وقد كان التوانسة ذوي فكر نير وتقبل الاخر المختلف دون صراع دموي كالذي حدث في ليبيا
وفي ليبيا عمت الفوضى فيها بعد اسقاط نظام معمر القذافي ولم نجد اي استجابة ايجابية في اتجاه التطور والتقدم . ولكننا وجدنا استجابات سلبية من النكوص الى العقائد القديمة السلفية الاسلامية بوجهها المتطرف او القبلي فقسمت ليبيا فعليا بين حكومة الاخوان في طرابلس و سيطرة داعش على الهلال النفطي في الشرق ومابينهما حكومة الوفاق . ولم نجد اي حركة تقدمية او حضارية لاخذ زمام المبارة والخروج بليبيا من النفق المظلم والحرب الاهلية التي باتت تهدد وحدتها وتعيدها الى التقسيم على ما كانت عليه في الخمسينيات من القرن الماضي
اما في سوريا فقد خرج الشباب في مظاهرات عارمة امتدت لاغلب المدن السورية مطالبين بتحسين الوضع الاقتصادي والسياسي . فتم قمعها بشدة من قبل النظام . فانتكست نتيجة الصورة الوردية التي قدمها الاسلامويون من مختلف الفصائل واعتقدوا انهم سيحققون جنة الله على الارض السورية . وربما كانوا يعلمون او لايعلمون ان حلول المشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لا تأتي من الماضي وانما تأتي من العلوم المتطورة نتيجة تقدم الانسان في سلم الحضارة . والحضارة لاحدود لها فهي ملك الانسانية جمعاء . وهكذا نجد ان الاستجابة كانت هي الاخرى سلبية حيث النكوص الى الماضي والبحث من خلاله الى حلول للمشاكل الانية . فازدادوا تخلفا على تخلفهم وتدخلت الاموال الخليجية تساند هذا الطرف او ذاك ثم تدخلت ايران تحت ذريعة حماية المقدسات فزادت الطين بله ومن خلال هذا التدخل طرحت مشروع تصدير الثورة الاسلامية الى سوريا بوجه اسلامي مغاير هو الاخر . وتدخلت تركيا بحجة مكافحة الارهاب . والارهاب عند تركيا غير الارهاب عند ايران وهكا فعلت روسيا وامريكا ايضا . وبالنتيجة لم نشهد اي مشروع تقدمي او حضاري يحقق طموحات الشعب الذي ثار من اجله . وامام هذه التحديات لم نجد سوى استجابات سلفية رجعية موغلة بالتخلف والدموية من داعش والنصرة وفصائل اسلامية اخرى والكل يتقاتلون من اجل مشاريع وهمية تستند على تاريخ ماضي لم يخل من شقاق ودموية هو الاخر . هذا بالنسبة لماسمي بالمعارضة . ولكن ماهي استجابة النظام لهذه التحديات وهو يقوم على اسس قومية اشتراكية بتنظيمات حزب البعث الذي يدعي التقدمية . . لقد كانت استجابته سريعة بالاعتماد على حزب الله المؤمن بولاية الفقيه الايراني الذي لايقل رجعية وتخلفا عن سلفية ودموية داعش والنصرة وبقية فصائل المعارضة للنظام . كما استنجد النظام السوري بايران ايضا فتشكل تحالف من الحرس البعثي القديم الذين يدعون انتمائهم القومي العربي مع الميليشيات الشعوبية التابعة لايران ، من اجل الحفاظ على مناصبهم وامتيازاتهم ضاربين بعرض الحائط كل الشعارات التقدمية الرنانة . وبذلك فهم ايضا استجابوا للتحدي استجابة سلبية بدلا من العمل على التجديد وتطوير العملية السياسية . وبذلك تشاطروا مع المعارضة في الانتكاس والتخلف
واذا اخذنا الموقف في العراق فان التحدي كان كبيرا من خلال الغزو الامريكي وتنصيب مجلس حكم موالي لليانكي من احزاب طائفية وكردية . . ثم استمرت العملية السياسية بنفس النهج الاناني الطفيلي فتسببت في خراب ماتبقى من اسس الدولة العراقية . والتكالب على نهب الاموال والممتلكات في كل القطاعات الصناعية والزراعية والخدمية وكذلك التربوية . ولم نجد اي مشروع لبناء دولة على وفق منهج محدد وواضح . فاصبح العراق دولة فاشلة بكل المقاييس . وبدلا من ان يواجه الشعب هذا التحدي الكبير الذي يضرب مصالحه الستراتيجية المشروعة ومستقبل الاجيال القادمة . نراه قد خاض بنزاعات طائفية تستند على اسس تاريخية مشوهة ومزورة ولم ينتبه الى التخريب المتعمد من قيادات الاحزاب الدينية التي امسكت بكل مفاصل الدولة وتسببت في خرابها جميعا . حتى انتبه اخيرا الى اللعبة القذرة التي جرته الى صراعات جانبية لاتخدم مصالحه الاساسية الواجب الحفاظ عليها . وهو بهذا المسلك قد استجاب ايضا استجابة سلبية ادت الى تراجع المجتمع وتفككه مبتعدا كل البعد عن التجديد والتطوير وبناء حضارة تليق به بدلا من الاعتماد على اجترار الماضي ، وتقديس السلف
من استعراضنا هذا يتبين ان التحديات التي واجهت الدول العربي تحديات جسيمة تم الاستجابة اليها استجابة سلبية بنكوصهم الى الخلف بدلا من التطلع الى المستقبل والنظر الى العالم المتقدم لاستباط القيم الحضارية منه وايجاد المعالجات المدنية للمشاكل الاقتصادية والسياسية . وادى هذا النهج الى تقديم محاولات هشة وضعيفة لاتتناسب مع عظم التحديات . كما انها ادت الى تقسيم المجتمعات التي كانت متماسكة الى حد ما . والدخول في صراعات بين تيارات متشابهة العناوين مختلفة التفاصيل . ومع ذلك فقد استخدم الجميع الوسائل العصرية من اعلام وتواصل اجتماعي وغيرها في مواجهة الخصوم . ودخل الاعلام ليمارس دعاياته الديماغوغية في سجالات عقيمة لتشخيص الازمات وايجاد الحلول لها . وفي كل تلك الصراعات كال كل طرف اتهاماته للطرف الاخر وغاب الحوار فدخلوا في الصراعات المسلحة والدامية
ان الاستجابة للتحدي لاتكمن في تمجيد التاريخ الذي اتخذته ثورات الربيع العربي
ولا في الخلافات حول الطابع الاسلامي او المدني الواجب الاخذبه حيث انها ادت الى انكار الاخر وغياب الاسس الاخلاقية والقيمية التي كانت سائدة والتي كانت سببا في نشوء الحضارات الباهرة التي شهدتها المنطقة
وقد كان الاجدر بهم الاتفاق على المشتركات ، والتحلي بالروح العلمية والتفكير الموضوعي والحضاري في معالجة المشاكل . والمرونة بدل الخلاف على شكل الهويات ومضمونها والخلاف حول التمسك بالتراث ام بالمعاصرة . كما كان يتوجب على الجميع العمل على الانصهار في اطار الوطنية القائمة على القيم العليا والتاريخ المشترك والعيش المتوازن الذي يضمن الحياة الحرة الكريمة لكل المواطنين بلا تفرقة او استثناء