هارباً من العسكر والزواج
سمير عطا الله
قال غابرييل غارسيا ماركيز «إن بابلو نيرودا هو أعظم شعراء القرن العشرين في كل اللغات». ربما كان أعظم شعراء الإسبانية، لكن عندئذٍ أين تضع غارسيا لوركا؟ وإذا تقبلت مقياس «كل اللغات» أين تضع الأميركي تي إس إيليوت، والفرنسي أراغون، والبريطاني أودن، والتركي ناظم حكمت، والهندي طاغور، والآيرلندي وليم باتلر ييتس؟
لست ملماً بالشعر وإن كنت عاشقاً له. وبالتالي، فلم أقرأ من هؤلاء السادة ما يكفي لإصدار الأحكام، أو مناقشتها. لكنني كلما عدت إلى قراءة نيرودا، أشعر أن هذا الذواقة الكولومبي، السنيور ماركيز، فعلاً على حق. في شعره السوريالي، وفي شعره الوطني، وفي أغاني الحب، وفي «ملاحمه». يبدو نيرودا نغماً رائعاً واحداً. تماماً مثل الموسيقى الكلاسيكية. عندما تحبها في البداية تحب أن تفسرها لنفسك. لكنك تكتشف أن الملايين الذين يسمعونها يفسرها كل واحد منهم بشعور مختلف عن الآخر. الألماني يسمع بيتهوفن من منطلقه النفسي، والفرنسي أيضاً، وكثيرون لا يعني لهم سماعه أي شيء، بل يفضلون عليه سحبة أبو الزلف.
عظمة الشعر الكبير، مثل اللحن الأخاذ، إنه ينتمي إلى جميع الحضارات. محمد عبد الوهاب كان يقول إن أعظم ما في الأغنية هو اللحن، وليس الشعر. وكانت عظمة نيرودا في لحنه. كان يمكن أن تقرأه بالإسبانية التي لا تفهمها وتحبه. وحتى في نثره كان موسيقياً. وفي حكاياته كان موسيقياً. وكان صيادو الأسماك يرددون شعره وهم يسحبون شباكهم من المحيط، من دون أن يدروا أن هذه ليست فولكلوراً شعبياً، وإنما من وضع شاعرهم العظيم.
عاش نيرودا هارباً. إما من زواج ملّه، وإما من حكم عسكري جديد في تشيلي. وتنقل في السلك الدبلوماسي من قنصل في بورما (ميانمار) وسيلان (سري لانكا) إلى سفير في باريس. وعندما نال نوبل الآداب عام 1971 كان من دون شك الشاعر اللاتيني الأكثر شهرة في العالم.
عاش نيرودا ناشطاً في الحزب الشيوعي ومطارداً، يهرب إلى الأرجنتين عبر جبال الأنديز. وبعد إصابته بالسرطان قيل إن نظام بينوشيه سمم له في المستشفى، فشعر بذلك وطلب من زوجته إخراجه على الفور.
لكن بعد وفاته، وعودة تشيلي إلى الحياة الطبيعية، نسيت نيرودا السياسي وبقي منه أنه شاعرها الأكبر. ونسي العالمسري لانكا اسم بينوشيه. ويعلم في كل مدارسه «عشرون قصيدة حب وأغنية لليأس». أما أجمل وأبسط ما كتب، فكانت «مذكرات»، عام 1974 التي صدرت بعد وفاته بسنة.
الشرق الاوسط