لا نَعرِف على وجْه الدِّقَّة مَن هُم مُستشارو الأمير محمد بن سلمان، وليّ العَهد السعوديّ، الذين ما زالوا يلتَفّون حوله، بعد اعتقالِ أو إبعاد عددٍ كبيرٍ منهم تَورَّطوا في جريمة اغتِيال الصِّحافي جمال خاشقجي، بَشكلٍ مُباشرٍ أو غير مباشر، ولكن ما نَعرِفهُ أنّ هؤلاء رُبّما قدَّموا له المَشورةَ الخَطَأ، عِندما نَصَحوه وشَجَّعوه على القِيام بهَذهِ الجولة الخارجيّة التي بَدأها يوم الخميس الماضِي بزِيارةٍ دولة الإمارات العربيّة المتحدة، ومِن المُفتَرض أن تشمل كُل مِن البحرين ومِصر وتونس والجزائر وموريتانيا لتَكون محطّة الخِتام بوينس أيريس، العاصِمة الأرجنتينيّة حَيثُ سيُشارِك في قمّة الدُّوَل العِشرين.
مِن الواضِح أن الهَدف مِن هَذهِ الجَولة هُوَ الإيحاء بأنّ وليّ العَهد السعوديّ لا يَعبَأ برُدودِ الفِعل العربيّة والدوليّة النّاجِمة عن اتِّهامِه بالوقوف خلفَ عمليّة الاغتيال المَذكورة، والطَّريقة البَشِعَة التي تمَّت بِها، وإنّه ما زالَ الحاكِم الفِعليّ للمملكة العربيّة السعوديّة، ولا يُواجِه أي أخطار، أو مُؤامَرات داخليّة، للإطاحةِ بِه مِثْلَما يتَردَّد في بعض الوسائل الإعلاميّة، عَربيّةً كانَت أو أجنبيّةً، ولكن رُبّما تأتِي رُدود الفِعل المُترتِّبة عليها بنتائِج عكسيّة تمامًا، مِن حَيثُ توفير ذَخيرة حيّة رُبّما تَرُشْ المَزيد مِن المِلح على جُرحِ الأزمةِ النّازِف والمُلتَهِب، خاصَّةً أنّ هُناك مِن يتَحرَّق شَوقًا لالتقاطِها.
***
لا نُجادِل مُطلقًا بأنّ الشَّق الخليجيّ (الإمارات والبحرين)، وربّما المِصري أيضًا آمِن، ولن يُسَبِّب أي مَشاكِل لوليّ العهد السعوديّ الزائر، فهَذهِ الدُّوَل تُصَنَّف في خانَة الحُلفاء، ولكن الأمر المُؤكَّد أن الحَل لن يَكون كذلِك في دُوَلٍ أُخرَى مِثل تونس والجزائر وموريتانيا تُوجَد فيها أحزاب سياسيّة وتمثيل بَرلمانيّ ومُؤسّسات مُجتَمع مدني قويّة، ومُعارَضة سياسيّة نَشِطَة، ووسائل إعلام مُؤثِّرة، ورأي عام لا يَكُن الكَثير مِن الوِد لوليّ العَهد الزَّائِر وحُكومة بِلاده وسِياساتِها العربيّة والدوليّة.
فالمُعضِلة الآن ليسَت مَحصورةً في مَقتلِ الخاشقجي وخَنقِه وتذويبه بعد تَقطيعِه على أيادي فريق الموت الذي طار خصّيصًا إلى إسطنبول لإنجازِ هَذهِ المُهمّة ومُعظَم أفراده مِن المُقرَّبين مِن الأمير، وإنّما الاتِّهامات المُوجَّهة إلى المملكة، والأمير محمد بن سلمان شَخْصيًّا بالوُقوفِ خلف هَجمَة التَّطبيع الخليجيّة مع دولة الاحتلال الإسرائيليّ.
الرئيس دونالد ترامب الذي يُعتَبر مِن أكثر المُدافِعين والحامِين للأمير بن سلمان، تَصرَّف مِثل الدُّب الذي قَتَلَ صاحبه، عِندما كشف بأنّ إسرائيل ما كانَت تستمر في الوجود لولا المملكة العربيّة السعوديّة، وشَدَّد على أنّ بقاء وليّ العَهد السعوديّ في مَنصِبه يَخدِم مصالح أمريكا وإسرائيل، مُعيدًا إلى الأذهان المثَل الإنكليزيّ الذي يَقول “مع هكذا أصدِقاء مَن يُريد أعداء”.
لم يَصدُر أيّ بيان رسميّ سعوديّ يُؤكِّد أنّ الأمير بن سلمان سيَزور تونس أو الجزائر أو موريتانيا حتّى كِتابَة هَذهِ السُّطور، كما أنّ الدُّوَل المُضيفة التَزمَت الصَّمت أيضًا، ولكِن مُؤسَّسات المُجتمع المَدنيّ في هَذهِ الدُّوَل أعلنَت رَفضَها المُطلَق لهَذهِ الزِّيارة، وعَبّر عَن هذا الرَّفض في مُظاهراتٍ وجَمْع تواقيع مِليونيّة لَعِبَت فيها مُؤسَّسات المُجتمع المَدنيّ الدَّور الأكبَر، ورُبّما يُؤدِّي هذا الرَّفض إلى إلغائِها، والتَّكَتُّم مَقصودٌ في هَذهِ الحالة.
نَشْرَح أكثَر ونَقول أنّ حُقوقيّين جزائريين عبّروا عن رَفضِهم لهَذهِ الزّيارة، ووصَفوها في بَيانٍ صَدَرَ عن نَقابَتِهم بأنّها حلقة مِن حَلقات التَّطبيع غير المُباشِر مع إسرائيل، بينَما قال مُتحَدِّث باسم الشبيبة الجزائريّة أنّ زيارَة وليّ العَهد السعوديّ غير مُرحَّبٍ بِها على أساسِ قتل الشَّعب اليَمنيّ، وتدمير دُوَل المِنطَقة مِثل سورية وليبيا بَل والمِنطَقة بأسْرِها، أمّا في موريتانيا فأكَّد رئيس حزب الرَّفاه محمد ولد فال وجود دَعَوات مِن أحزابٍ سياسيّة والكَثير من الشخصيّات الثقافيّة والنقابيّة لمُقاطَعة الزِّيارة، ورَفَع برلماني تونسي لافِتَةً كُتِبَ عليها “لا أهْلًا ولا سَهْلًا” داخِل البَرلمان، وأعرَبت نسبة كبيرة مِن نُشَطاء المُجتمع المَدنيّ التونسيّ عَن الرَّفضِ المُطلَق للزِّيارة لبَلدِهِم المُقرَّرة بعد غَدٍ الثلاثاء، ولا ننْسَى البَيانات التي أصْدَرها مُعارِضون في مِصر رَفْضًا للزِّيارة، ورَبَطَت بين الأمير الزَّائِر و”تَنازُل” الحُكومة المِصريّة عَن جَزيرتيّ “صنافير” و”تيران”، وهذا لا يَنفِي تأييد المُوالين لهَذهِ الحُكومة للزِّيارة، ورُبّما التَّظاهُر تأييدًا لها.
رُبّما مِن السَّابِق لأوانِه الحَديث عمّا يُمكِن أن يَحدُث في أروِقَة قمّة العِشرين في الأرجنتين مِن مُفاجآتٍ، ليْسَت شَرطًا أن تَكون كلها سَلبيّة فهُناك ثلاثة زُعَماء بارِزين أظهَروا رَغْبَةً في لِقاء وليّ العَهد السعوديّ على هامِشِها (بوتين، ترامب، أردوغان)، ولكنّنا لم نَسمع عن رَغبةٍ مُماثلةٍ مِن زُعَمَاء آخَرين مِثل الرئيس الفِرنسيّ إيمانويل ماكرون، والمُستشارة الألمانيّة أنجيلا ميركل، ورئيسة الوزراء البريطانيّة تيريزا ماي، بالإضافة إلى رئيس الوزراء الكَندي جاستين ترودو، الذي ما زالَت علاقات بلاده مع الرياض مُتوتِّرةً على أرضِيّة انتِقادِها لانتهاكاتِ حُقوق الإنسان في السعوديّة، ولذلِك فإنّ المُفاجآت، وإيجابيّة أو سلبيّة وارِدَة، وكَثيرون يُرجِّحون الأخيرَة.
***
نَحنُ الآن أمامَ مُعَسكرين، الأوّل يَقودُه الرئيس ترامب ويُريد تَبييض صفحة وليّ العَهد السعوديّ، وتَبرئته مِن جريمة اغتِيال الخاشقجي وكُل تَبعاتِها، وآخَر يُريد تَجريمه، وفَرض عُقوبات عليه والحُكومة السعوديّة ويَقودُه الرئيس أردوغان (حتّى الآن)، وأعضاء بارِزين في الكُونغرس الأمريكيّ، ومُعظَم وسائِل الإعلام الأمريكيّة والأُوروبيّة.
لا نُجادِل مُطلقًا بأنّ المال سِلاح قويّ رُبّما يُرجِّح كفّة المُعسكَر الأوّل نَظَريًّا، فالصَّفَقات تتقدَّم على المَبادِئ وقِيَم حُقوق الإنسان في العالَم الغَربيّ، ولكن لا يَجِب التَّقليل مِن تيّارٍ مَدنيٍّ وبَرلمانيٍّ قويٍّ يَحظَى بالدَّعم، مِن وسائِل إعلاميّة نافِذة مِثل مجلة “الإيكونوميست”، وصحيفة “الواشنطن بوست”، و”الغارديان” و”الإندبندنت” البِريطانيّتان، وجَميعها طالَبت بتَحميلِ الأمير بن سلمان المَسؤوليّة الرئيسيّة في جريمَة اغتيال الخاشقجي.
جولة الأمير بشَقّيها العَربيّ والدوليّ رُبّما تقود إلى أحَد أمْرين، إمّا إعادَة تأهيله وعَودَته إلى المُجتمع الدوليّ بأقَل قَدَرٍ مِن الخَسائِر، أو مُحاصَرته ورُبّما عَزلِه، وإذا كانَ هُناك خَيار ثالث بين الاثنَين، وهذا غَيرُ مُستَبعد، فإنّ هذا يَعنِي استمراره ضَعيفًا وليسَ بالقُوّة التي كانَ عَليهَا.. ونَتْرُك الإجابة للأيّام المُقبِلة.
عبد الباري عطوان- رأي اليوم
118 تعليقات