حروب ترامب والإنكفاء الأميركي
يعتبر الرئيس الأميركي دونالد ترامب حالة فريدة في السياسة العالمية وربما مدرسة جديدة في السياسة، من يدري؟ فمنذ توليه الرئاسة وحتى اليوم وهو يخلق خصوما كي يحاربهم وينتصر عليهم، ولم يترك دولة حتى الآن لم يغضبها، بما فيها أقرب حلفاء أمريكا في أوروبا وآسيا. وتقوم سياسة ترامب أساسا على إهانة الطرف المقابل وإخافته وجعله يذعن له كي يبدو منتصرا أمام جمهوره، لكن ذلك يأتي دائما على حساب قوة الولايات المتحدة وريادتها العالم الحر.
ومن أوائل الذين حاربهم ترامب مذ كان مرشحا هم الصحفيون الأميركيون إذ دأب يشير إلى وسائل الإعلام بأنها “إعلام الأخبار الكاذبة” والصحفيين بأنهم “مروجو الأخبار الكاذبة” وسبب ذلك هو أن الصحافة الحرة لا تستطيع أن تصمت أزاء أخطاء ترامب وأقواله المنفلتة، ولأن سلطته على الصحافة معدومة، فقد أخذ يصمها بالكذب واختلاق الأخبار كي يوهم أتباعه بأنه يتعرض لحملة تشهير بسبب تبنيه مبدأ “أمريكا أولا”. وفي خضم حربه مع الصحافة، فإنه يخوض أيضا حربا مع خصومه في الحزب الديمقراطي الذين اتهمهم بكل التهم المتاحة لديه وبطريقة غير مألوفة في السياسة الأميركية. وبعد أن رسَّخ خصومته مع الديمقراطيين والصحافة، انتقل بسلاسة وسهولة بالغتين إلى حلفائه الجمهوريين، فأصبح كل من يختلف معه في الرأي، مثل وزراء خارجيته ودفاعه وعدله السابقين، رِكس تيلارسون وجيمز ماتيس وجيف سيشنس، ومستشاريْه للأمن القومي السابقين، مايكل فلين وهربرت ماكماستر، فإنه يصبح شخصا غبيا أو كسولا أو متعاليا أو جاهلا بالمصلحة الأميركية.
أما مبعوثه إلى العراق، برت ماكغورك، الذي استقال بعد قراره المفاجئ الانسحاب من سوريا، فقد ادعى عدم معرفته!
وقد تكون حروب ترامب الخارجية الأكثر خطورة، إذ بدأها مع المكسيك عبر خطته المبتكرة لبناء جدار على حدودها، متوقعا من المكسيك أن يدفع الكلفة! وأعقب ذلك تشجيعه بريطانيا على مغادرة الإتحاد الأوروبي واحتضانه المتشددين المناهضين للاتحاد، من أمثال بوريس جونسون ونايجل فراج، وإطلاقه الوعود بأن التجارة الأميركية مع بريطانيا سوف تزدهر بعد مغادرة الأخيرة الاتحاد الأوروبي، وربما ساهم ذلك في ترجيح كفة المنادين بالانسحاب من الاتحاد في استفتاء عام 2016 والذي أحدث تراجعا اقتصاديا حتى قبل الانسحاب.
من العوامل التي عززت الثقة بإدارة ترامب هي تولي جون ماتيس وهربرت ماكماستر أهم منصبين أمنيين في البلد لأن الرجلين خبيران متميزان في هذا المجال ويحظيان بثقة الأميركيين، لكن مغادرتهما منصبيهما قد أفقدت الرئيس أهم عوامل الثقة بإدارته. كما إن سبب استقالة ماتيس، وهو ازدراء الرئيس للحلفاء، أكد للكثيرين بأن ترامب يسير في طريق خطير سوف يدفع حلفاء أمريكا إلى التفكير بجدية برسم مسار مستقل لهم، سواء في المجال الاقتصادي أو العسكري أو السياسي.
الشراكة التجارية الأميركية الصينية تمر بأصعب مراحلها في عهد ترامب الذي يبحث عن انتصارات تمكنه من البقاء في البيت الأبيض لدورة ثانية، وهو أمر يبدو مستبعدا حاليا، بل أن هناك من يستبعد إكمال الرئيس ولايته الأولى، خصوصا مع التحقيقات الجارية في قضايا كثيرة، بعضها يتعلق بصدقيته وممارساته الشخصية، والآخر يتعلق بدور روسي مزعوم في فوزه بالرئاسة.
لقد طورت الصين نموذجا اقتصاديا جديدا جعلها قوة عظمى تتحدى الهيمنة الأميركية على الاقتصاد العالمي، ولا يمكن الولايات المتحدة أن تعارض تنامي قوة الصين الاقتصادية أو تنتقص من نموذجها الاقتصادي الناجح، ولكنها لا تستطيع أن تراقب بصمت هذا النمو الصاروخي خصوصا وأن الصين تنتهك بعض القوانين الدولية كالملكية الفكرية، وتمارس القرصنة السايبرية، وتجبر الشركات العاملة فيها على نقل التكنولوجيا إليها وتفرض قيودا تجارية غير تعرفية. وقد هدد ترامب بمضاعفة التعرفات الجمركية على البضائع الصينية إن لم تعالج الصين هذه الاختراقات. لا يمكن الصين التخلي عن السوق الأميركية، لذلك أعلنت أثناء زيارة ترامب عن تنازلات تجارية لواشنطن، فاتخذت إجراءات للحد من نشاطاتها غير القانونية، مجرية تعديلات للقوانين المتعلقة بها، لكنها طلبت مهلة لتنفيذها فوافق ترامب على منحها 3 أشهر، وفي خلاف ذلك فإنه سيضاعف التعرفة الجمركية على المنتجات الصينية.
يدرك الصينيون أن ترامب محاصر داخليا وأنه يبحث عن أي نصر ولو كان شكليا كي يرفع مكانته أمام جمهوره. هناك استياء من أداء الرئيس، فالطبقة الوسطى متذمرة من ركود إيراداتها، بينما ثقة الشباب في النخب السياسية تتناقص، لذلك فإن مثل هذه (التنازلات) ستجعل ترامب يبدو منتصرا، لكنها في الحقيقة ضرورية للصين أيضا، لأنها بلغت مرحلة متقدمة من النمو الاقتصادي لا تسمح بالاستمرار في انتهاك القوانين الدولية، وإن كانت مستفيدة من ذلك سابقا، فإن الأضرار الناتجة عنه ستكون أكثر ضررا.
لن تخاطر القيادة الصينية بحرب تجارية واسعة النطاق مع الولايات المتحدة لأنها ستتضرر منها، كما أن الثقة بالحكومة، ومعها الضبط الاجتماعي، قد تختل بسهولة إذا ما حصل أي تراجع اقتصادي، لذلك فإن الصين سوف تتعاون مع الولايات المتحدة لكنها سوف تماطل من أجل كسب الزمن. بقاء ترامب رئيسا سوف ينفع الصين لأنه يبحث دائما عن انتصارات سريعة وقصيرة الأمد ولا يمتلك خططا استراتجية يمكن أن تعرقل التوسع الاقتصادي الصيني.
لقد استطاع ترامب الوصول إلى الرئاسة بأعجوبة، وقد خدمته ظروف كثيرة منها النظام الانتخابي الذي جعله رئيسا رغم أن هيلاري كلنتون تفوقت عليه بثلاثة ملايين صوت، والتوجه اليميني المتزايد عند شرائح كبيرة من الشعب الأميركي بسبب الهجرة من المكسيك، والسخط من الإنفاق الهائل على السياسة الخارجية والمغامرات العسكرية في أفغانستان والعراق، لكن هذا لا يكفي لإدامة زعامته. ومع سيطرة الديمقراطيين على مجلس النواب، لن يتمكن ترامب من تحقيق أي من وعوده، خصوصا بناء الجدار مع المكسيك بكلفة تقارب 40 بليون دولار.
الإنكفاء على النفس بالنسبة للولايات المتحدة ليس خيارا حكيما أو عمليا، فهي تستمد قوتها من نفوذها العالمي الواسع وتقدمها العلمي والتكنولوجي المذهل، ونظامها المالي الذي يعتمد عليه العالم كله، وتنوعها السكاني والثقافي الفريد الذي يربطها بكل ثقافات العالم، وأخيرا التزامها بالديمقراطية ومبادئ الآباء المؤسسين. تخلي أمريكا عن دورها الريادي العالمي سيحجِّمها اقتصاديا ويضعفها سياسيا وعسريا.
حميد الكفائي – كاتب عراقي. والمقال للحياة
93 تعليقات