أميركا في كل ارض العرب: الضياع العربي يتربص بالقمتين! / طلال سلمان
19 يناير 2019، 00:05 صباحًا
منذ وقت طويل، لم تشهد المنطقة العربية هذه الكثافة في الموفدين الأجانب، يتقدمهم ـ بطبيعة الحال، الأميركيون: وزير الخارجية، وبعض كبار المسؤولين فيها، والعديد من أجهزة المخابرات، ضمنها أو بصورة مستقلة.
لكأنما تستشعر أجهزة المخابرات الأميركية، وهي عديدة بعضها “مدني” المظهر والآخر عسكري، ان المنطقة مقبلة على أحداث خطيرة، بينها “المصنوع” وبينها “المتوقع” أو “الطبيعي”..
في أي حال كان الموفد الى لبنان السفير الأسبق فيه ديفيد هيل، الذي يعرف الكثير الكثير عن هذا الوطن الصغير وأهله، لا سيما السياسيين منهم.. وهو بدأ جولاته بمخالفة بروتوكولية، اذ زار وليد جنبلاط، قبل أي مسؤول رسمي: رئيس الجمهورية، رئيس مجلس النواب، رئيس الحكومة (ولو مكلفاً) ثم وزير الخارجية، قبل أن يتفرغ للقاء الأصدقاء القدامى من اهل السياسة.
أما وزير الخارجية الأميركية فقد زار بغداد، بعد فضيحة الزيارة السرية التي قام بها الرئيس الأميركي ترامب الى إحدى القواعد العسكرية الأميركية في العراق، والتي حاول خلالها الاتصال برئيس الحكومة العراقية فرفض الرد على اتصاله.
كذلك زار وزير الخارجية الأميركية الرياض واستقبله في المطار وزير الدولة للشؤون الخارجية بدلاً من وزير الخارجية الجديد، قبل أن يلتقيه الملك سلمان ثم نجله ـ ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.. (وسط عاصفة جوية، تغطي على العاصفة التي أثارها الرئيس الأميركي ضد المملكة بذريعة انها أغنى مما يجب، وعليها أن تدفع لواشنطن، ثمن حمايتها..)
بالمقابل كان صاحب وجه القط، جون بولتون، الذي عين مؤخراً وبعد سلسلة استقالات قدمها العديد من المسؤولين في البيت الأبيض والخارجية والبنتاغون، احتجاجاً على القرارات الارتجالية وغير المسؤولة التي يتخذها الرئيس ترامب، من دون الرجوع الى الدوائر المختصة لإبلاغه بما سوف يقول حتى لا تفاجأ ولا تعرف كيف تتصرف بعده..
ولقد لقي بولتون هذا الترحيب الحار في تل أبيب، حتى كاد رئيس حكومة العدو نتنياهو أن يعانقه محتضناً، قبل أن يتوجه الى حائط المبكى لتأكيد ولائه المطلق لإسرائيل.
كان ثمة موفدون أميركيون آخرون قد زاروا أنقرة والدوحة ومسقط في سلطنة عُمان.. بينما أرجئت الزيارات الرسمية للكويت والإمارات الى موعد آخر.. قريباً،
ماذا وراء هذه الجولات الاميركية التي شملت العديد من العواصم العربية، فضلاً عن التعهد باستكمالها عبر زيارات مبرمجة لمن لم يتسع لها البرنامج السابق؟
أما في بيروت فقد شملت “ملاحظات” الموفد الاميركي والذي أمضى سنوات طويلة في لبنان كسفير، الرؤساء الثلاثة (العامل منها والمستقيل المكلف مع وقف التنفيذ) ووزير الخارجية والعديد من أهل السياسة والكياسة في حفل عشاء اقامه على شرفه نائب زغرتاوي لم يمتع والده برئاسة الجمهورية، وحضره بعض “النخب السياسية”.. وهو قد أظهر القلق حيال الوضع عند الحدود الجنوبية، وما ادعى العدو الاسرائيلي انه قد كشفه من انفاق حفرتها المقاومة داخل الأرض المحتلة..
وهكذا اكتملت الدائرة الاميركية ـ الاسرائيلية حول “مخاطر الانتشار العسكري الإيراني في المنطقة، وتأثيراتها السلبية على عملية السلام”!
بدأت “عملية السلام”، منذ سنوات طويلة مع “زيارة العار” التي قام بها الرئيس المصري الاسبق، انور السادات، إلى الكيان الاسرائيلي مباشرة بعد حرب اكتوبر / رمضان، المجيدة، وهي التي وقف فيها خطيبا لـ”السلام”، وباسمه وفوق اجداث الشهداء ليكمل مسيرته وصولاً إلى اتفاقات كمب ديفيد المهينة، وما أعقبها من تفكك التضامن العربي، واندفاع الدول العربية، بعنوان أصغرها قطر، ثم الاردن، إلى تجاوز العداء وافتتاح سفارات لها لدى الكيان الاسرائيلي، وتوقيع اتفاقات سياحية وتجاريه معاً.
اليوم، يجري الكلام علناً، بلسان نتنياهو كما بألسنة عربية مسؤولة وفصيحة، عن “عبثية استمرار حالة الحرب مع العدو الاسرائيلي، وضرورة البحث عن سياسات عملية ترتكز إلى السلام وليس الى العداء..”
من هنا، يبدو “طبيعيا” أن يثير مساعد وزير الخارجية الاميركي للشؤون السياسية ديفيد هيل، مع المسؤولين في لبنان، مسألة “الوضع المتوتر” في الجنوب نتيجة الانفاق التي كشفها العدو الاسرائيلي عند خط الحدود، مشيراً ـ ولو ضمناً ـ إلى أن العديد من المسؤولين العرب يشاركونه “هذا القلق..”
ومن هنا يتباهى نتنياهو بأن زيارته سلطنة عُمان واستقبال السلطان له، وهو الحي ـ الميت، يفتح الباب امام “اعتراف” المزيد من الدول العربية بدولة اسرائيل، وانه “قد يقوم قريباً بزيارات أخرى، وبعضها قد يأتي مفاجئاً ولكنه يعزز مسيرة السلام”..
هل هناك تكامل بين الجولة الدبلوماسية الفخمة لمسؤولين اميركيين كبار، وبين هذا التحرك الناشط للدبلوماسية الاسرائيلية بقيادة نتنياهو؟!
وهل هناك ترابط بين هذا كله وبين حديث الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عن التعاون الامني مع اسرائيل على مكافحة الارهاب في أطراف شبه جزيرة سيناء التي ما تزال محتلة؟!
الا تخدم هذه التطورات جميعاً “عملية السلام” المنشود؟!
لقد تم اسقاط المسافات والفروق بين السياسة الاميركية والمطامع الاسرائيلية في مجمل الوطن العربي، مع فلسطين وعلى امتداد الجغرافيا السياسية العربية.
لم يعد يمكن التمييز بين ما هو “فعل” أميركي حقيقة، وبين ما هو من صنع تل ابيب، بالشراكة الكاملة بينهما مع معظم قادة العرب ـ تابعين ومستتبعين وعاجزين؟!
لقد أسقطت انظمة الهزيمة “القرار العربي الحر”، وسلمت أمرها إلى واشنطن، وعبرها او مباشرة إلى “اسرائيل”، عدو الامة، سابقاً!..
صارت كل “قمة” عربية، وأية قمة تتطلب جهوداً استثنائية لإتمام عقدها، وجهوداً اضافية للاتفاق على البيان الختامي والقرارات (التي لا تنفذ) وكلها من غير مضمون، او بمضمون ناقص او مشوه او مخادع للجمهور العربي، الذي لم يعد يأبه لانعقاد مثل هذه القمم، بل يتخوف منها على وطنه، وعلى ابنائه والجيل العربي الجديد.
كل “قمة” تُنزِل العرب عميقاً إلى تحت، فتُغطي هزيمة او تنازلات سابقة، او هزيمة وتنازلات لاحقة..
يتفرج العرب على قمم الدول الاخرى، في أوروبا وأميركا وآسيا، ويتحسرون: انها قمم عمل، يتوارى البروتوكول في اضيق الحدود ليكرس “وقت الكبار” للإنجاز وليس لتبادل القبلات والعتاب و…الضرب بالصنادل!
وما بين القمة الاقتصادية العربية التي ستعقد خلال ساعات، والقمة العربية (السياسية) التي ستعقد في تونس بعد مائة يوم، نتمنى الا نشهد مزيداً من الانتصارات الاسرائيلية ومزيداً من التنازلات واسباب التراجع، عربياً.
ولقد انتهى زمان “تفاءلوا بالخير تجدوه”.. فلقد اغتيل الخير مع ضياع فلسطين ثم ضياع العرب عن طريقها وعن طريقهم إلى مستقبل أفضل!
كاتب وناشر ورئيس تحرير صحيفة السفير المقال من رأي اليوم