كرسي هوكينغ… شوائب الوقار البريطاني
من فوق هذا المقعد خاطب البشر لكن بخطاب الوعي المستقبلي، محذراً من كارثيات كونية يحال تطويقها والسيطرة عليها ما لم تثب تلك القوة الطائشة إلى رشدها وتعلن صيحة إنقاذ الكوكب الأرضي الذي تحدق به أطياف الفناء. لكن ترى ما هي الدوافع القومية البريطانية وراء طرح كرسي هوكينغ للبيع؟ وهل مثَّلت الملايين المقدرة له إغراء خاصاً نحو إتمام الصفقة؟ وكيف كان هناك حرص من جمهور العلماء بالجامعات البريطانية ورغبة عارمة من فئات أخرى نحو أن تكون رفات هوكينغ بجانب رفات كل من إسحاق نيوتن وتشارلز دارون، بينما استبيحت مخطوطته للدكتوراه في صالات المزادات؟ وهل كان يمكن بعد ذلك أن تقتني إلا كأثر ثمين لا تسهل مشروعية الإتجار فيه عند هواة وتجار التحف والأنتيكات؟ ولماذا لم تقتنيها رفوف المكتبة البريطانية أو أروقة الجمعية الملكية للعلوم؟ ألم يكن الأجدر أن تقتني مؤسسة هوكينغ متعلقاته كافة تقديراً للقيمة المعنوية والأدبية؟ ألم تكن بصمة هوكينغ على كتابه «تاريخ موجز للزمن» أبقي للتاريخ وللشرف العلمي من تلك الدراهم المعدودة؟ وطبقاً لذلك هل يمكن التفريط في أي من مقتنيات المتحف البريطاني إذا ارتفع المقابل المادي؟ ولعل المقولة الشهيرة لهربرت سبنسر كانت تمثل التحدي الأكبر أمام هوكينغ، إذ أراد أن يصل إلى نتائج عكسية قاطعة تؤكد انتصاره العلمي الساحق على كل من سبقه من علماء وفلاسفة حاولوا فك الشفرة الكونية وتهالكوا على بلوغ الحقيقة، إذ دأب سبنسر على استحداث نظرية فكرية تترجم له تلك البانوراما الكونية باستكشاف قوانينها الحاكمة فكرياً وفلسفياً وتتحرك نحو صفحة من تاريخ جديد، لكنه أخفق وعاد أدراجه ليس لقصور ذاتي في ملكاته لكن لكون القضية من الضخامة والعمق والعسر بحيث يستحيل على عقل أن يقتحم أسرارها وخفاياها، فنراه أكد في لحظة غروبه عن الوجود قائلاً: «بهرني الكون فآلمني عجزي عن معرفة كنهه، لذا قررت الرحيل وأوصي بأن تحرق جثتي ويلقي برمادها في الكون دلالة على عجزي واعترافا بهزيمتي».
من هنا تمرد هوكينغ وقرر أن يخوض دروب المستحيل فبدأ رحلة عاصفة من التفسيرات والتحليلات والتنظيرات والأفكار والنظريات مستلهماً تاريخية القضية ومستقبليتها وكيفية هزيمتها لعقول الماضي والحاضر، منطلقاً نحو موقف مغاير تناصره فيه التقنية الرفيعة بجانب حداثة الرؤية العلمية المنبثقة من تراكمية نتاج العلماء وكذلك الشغف المعرفي والتطلع نحو التفرد بطرائق مختلفة نسبياً للاشتباك مع تلك القضية الأزلية الأبدية.
فماذا كان حصاد التجربة الهوكينغية سوى إضافات ثرية وإسهامات ملموسة تجدد معنى قداسة العلم، حول نشأة الكون وفنائه وعمره وظواهره ومدى ديناميكيته وعمق استاتيكيته والقدرة الجبارة المسيرة لمنظومته وأبعاد غموضه، تلك الشارحة لعوالم الحيرة الكونية المؤكدة لديمومة السر السرمدي في السماء والأرض وما بينهما. وتلك دلالة كبرى أو هي أكبر دلالة ليس على ضرورة كف العلماء عن مغامرة الأبحاث الكونية، بل هي دعوة نحو التواصل الحميم معها تقليصاً لمساحة الغموض وطغيانها ليس غير.
ولعل أزمة الإنسان المعاصر إنما تتجسد في كونه يعايش مأزقاً معرفياً تاريخياً نادراً تتجلى خيوطه في ذلك الزخم المعلوماتي الذي يلفه ليل نهار لكنه لم يمكنه من تحجيم مساحة المجهولات التي تتكشف مجدداً على الصعيد الفكري والعلمي وهو ما يمثل علاقة طردية تتجاوز نطاق الاحتمال المنطقي نظراً لغرابة الاستدلال.
وعالم هوكينغ هو من الرحابة والعمق بحيث يصعب الإلمام به على كليته وإنما دائماً يعتقلنا الحديث حول جزئية لا نستطيع مغادرتها، لكن مهما تتفرق بنا السبل أو تتحد حوله يظل الاتفاق على كونه ينتمي إلى فصيلة كبار العلماء أمثال أينشتين وماكس بلانك، وهو ما اجتذبني نحوه منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً، فكنت من أؤلئك الذين قدموا عرضاً لأطروحته البديعة «تاريخ موجز للزمن» بجانب عشرات المقالات التي أفردتها عن نظرية الثقوب السوداء ومخطوطته «نظرية كل شىء» ومواقفه المناوئة للسياسات الجائرة للدولة العبرية بل رؤيته القاتمة للمشهد السياسي العالمي. غادرنا هوكينغ تاركاً إرثاً علمياً هائلاً سجَّل به بصمة ووقفة سوف تستلفت أجيال المستقبل كما أتحفت أجيال الحاضر، وسيرة ذاتية كانت نموذجاً حياً للاحترام والقيمة. سيرة فاضت بأخلاق العلماء تلك التي أغدق منها على كاتب هذه السطور حين خصَّه – ومنذ عشر سنوات – بخطاب من جامعة كمبريدج إثر طلب لقائه أو حلم لقائه لكن كانت طبائع الزمن هي القانون الصارم الذي قضى أن أكون في لندن ويكون هو في أميركا ليظل لقاء تخاطر خارج أطياف الزمن!
محمد حسين أبو العلا -كاتب مصري والمقال للحياة