تحرير الذات بعيدا عن التبعية وسلخ الجلد/ بنسالم حميش
«إن العنف الاستعماري لا يريد إخضاع هؤلاء البشر المستعبَدين فحسب، وإنما يحاول أيضاً تجريدهم من إنسانيتهم؛ إنه لن يدخر جهداً من أجل أن يقضي على تقاليدهم، وأن يحلَّ لغتنا محل لغتهم، ومن أجل أن يهدم ثقافتهم دون أن يعطيهم ثقافتنا، وبالتالي فإننا نرهقهم تعباً» (جان-بول سارتر).
في سياق اهتمامي المديد بأعمال ابن خلدون، صرت وقافا عند مجمل أفكاره العميقة الشيقة، ومن ضمنها هذا الثبت الصائب: «إن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده؛ والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه […] لما تُغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي وإنما هو لكمال الغالب». فلا بد إذن من تبديد هذه المغالطة حتى تبدو الغلبة في عراء مسبباتها الملموسة وينجليَ سبيل مقاومتها وتحييدها.
إن إ. سعيد في مؤلفه القيم الإمبريالية والثقافة يعرض ما يسميه القراءة الطباقية المهتمة وظيفيا باستنطاق النصوص وسبر أغوار خلفياتها وخفاياها بقصد إدراك واستعادة ما تعمل على تسريبه وتقنيعه في إواليات السيطرة والتحكم؛ هذا وإنها تعطي للصنف الروائي مكاناً مهما في برهنتها، فيظهر أن “الأوطان هي نفسها عبارة عن سرديات”.
وكمثال واحد على ما تكشفه تلكم القراءة، كما تحققتُ منه، هو المتعلق بالكاتب ألبير كامي الذي أعلن في غمرة الحرب الفرنسية-الجزائرية أنه يؤْثر أمّه على جبهة التحرير الوطني، وسجل بصريح العبارة: «إن فرنسيي الجزائر هم أيضا وبالمعنى القوي سكان أصليون. ويلزم أن نضيف أن الجزائر عربيةً خالصة لا يمكنها أن ترقى إلى الاستقلال الاقتصادي الذي بدونه لا يكون الاستقلال السياسي سوى وهم» [كذا!].
علاوة على ذلك كله يريد فاعلو ذلك العنف الهيمني من متلقيه أن ينسوا معاناتهم الممضة تماما، كما هو مطلب برنارد لويس. ومن مظاهر الهيجمونيا المقنّعة المخاتلة أيضا أذكر على سبيل المثال فقط: النمو اللامتكافئ واختلال علاقات القوى وعباراتِ التبادل اقتصاديا وتجاريا، كما بين الهويات والثقافات واللغات؛ ازدواجية المواقف والمعايير التي ترفعها البلدان القوية، سرا أو جهرا، إلى سدة السياسة المتبعة أمام قضايا ومعضلات مجمل بلدان الجنوب، وعلى رأسها القضية الفلسطينية…
ومن الحري بالتسجيل أن أمين معلوف في كتابه الهويات القاتلة قد تمثل البعد التراجيدي لهذه المظاهر، وغيرها كثير، فتساءل في لحظة صحو نيرة: «كيف لا ينشأ لدينا شعور بأننا نعيش في عالم يتملكه الآخرون ونخضع لقواعده المملاة من طرف هؤلاء، عالم حيث لا نكون إلا كالأيتام والغرباء والدخلاء والمنبوذين؟».
ولعل ما يغني عن الخوض في ضرب الأمثلة هو خطاب نجيب محفوظ إلى الأكاديمية السويدية ولجنة نوبل بمناسبة فوزه بهذه الجائزة سنة 1988؛ فمما جاء فيه: «سادتي… أخبرني مندوب جريدة أجنبية في القاهرة بأنه في لحظة إعلان اسمي مقروناً بالجائزة ساد الصمت وتساءل الكثيرون عمن أكون، فاسمحوا لي أن أقدم لكم نفسي بالموضوعية التي تتيحها الطبيعة البشرية»، إلخ.
ومن تبعات ذلك الوضع السلبية مغاربيا أن فئات من المثقفين طبّعوا الاتباعية، وبها حتى الثمالة سكِروا؛ وهم إجمالا من الكتاب الفرنكوفون الذين يركبون الكتابة المستقيمة الطيعة فرنسيا، والقذفية التشهيرية وطنيا (بوقف تيماتهم على الفساد والمخدرات والبغاء والتطرف الديني)؛ كُتابٌ يحق المفكر عبد الله العروي من باب الصنافة الموضوعية (تيبولوجيا أو طاكسينوميا) إذ يدرج أدبهم ضمن الأدب الفرنسي، ولو أن أصحابه ولدوا ونشؤوا في بلدان المغرب، مثلهم كمثل الأدباء الفرنسيين الملقبين باسم “الأرجل السود”، كناية عن ولادتهم في هذه البلدان.
وأولئك الكتاب، وحتى جموع من المثقفين، يظلون غير عارفين بما نبه إليه من باب المعاناة والتجربة والي مصر محمد علي، وعبر عنه بوعيٍ مريرٍ مكلوم في مراسلته مع قنصليات أجنبية معنية تأثرتُ لها أيما تأثر؛ وفي إحداها، بعد أن ذكّر بسعيه التمديني والتحديثي وحرصه على رعاية مصالح الأوروبيين، قال بالحرف: «إني لست من دينهم، ولكني إنسان مثلهم، ويلزم أن أُعامل إنسانيا».
وقال بهذا وسواه بعد أن نظمت ضده أنجلترا مع حلفائها الأوروبيين حملة عسكرية لكبح جموحه الإصلاحي ومنعه من ترقية مصر إلى مصاف بلاد نامية حديثة وقوة إقليمية وازنة. وكان تدخل تلك القوى متذرعا بنزوع الوالي إلى الاستقلال والاستقواء تجاهها وتجاه الباب العالي التركي الآخذ في التصدع والإذعان لهيمنة الأوروبيين وحمايتهم. فاضطر محمد علي إلى التراجع عن مشاريعه تلك وقبول تحول حكمه على مصر وحدها إلى خديوية وراثية…فكيف لا تنتهي ومعه شرائح واسعة من العرب إلى الاقتناع بأن الغرب لا يريد منهم أن يتشبهوا به ويقتدوا، بل فقط بعبارة محمد علي “أن يخضعوا له ويطيعوه”!
في المحصلة، إن الغلبة الهيجيمونية بترسانتها العسكرية-الاقتصادية والرمزية لا يمكنها أن تعمل وتستديم إلا بإخضاع وإضعاف دول وأوطان كثيرة..إنها تخلق في عالمنا الحديث ظاهرة التبعية السالبة متعددة الصيغ والأشكال؛ ظاهرة هي منبع استعباد وتبخيس الذوات، أو تدهور المرجعية الذاتية كما يسميها الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (selbslosigkeit).
وهكذا فالتبعية إذن هي كالمديونية، كلما راكمناها إلا ورهنا حريتنا وانسلخنا من سيادتنا، وسعينا بالتالي إلى انتحال ثقافة الغير بالاقتباسات والتقمص. وحتى لو اعتبرنا هذا الصنف من الوجود ممكناً، أفلا يبقى سيرانه رهينا بعلامات الاصطناع والكوميديا الحزينة، ويكون ممثلوه مكتفين بحياة النقب في مقدرات الآخر، محرومين من حقوقهم في إعمال أو تطوير نوابضهم الذاتية والعقلية، فيمسى مثلهم كمثل المدجنين Mudejares أيام افتقاد الأندلس.
بعيدا عن الجلد الذاتي والمديح الذاتي، يعلٍّم الفكر الإنسوي للبلدان المهيْمَن عليها أن هناك مجالا للوعي واليقظة، ولاكتساب إرادة الوجود المقاومِ المبدع، كما يعلمها أيضا أن مغلوبيتها من طرف علاقات القوى القائمة لا تحول دون أن تعبر عن وجهة نظرها وسردها والإدلاء بروايتها لنشأة العقد والمعضلات، ولا دون حقها في إعادة تقويمها البنيوي وتحررها الفكري. ذلك لأن الهيمنية الجائرة إذ يمكنها الاستمرار في الإفساد واستغلال بلدان الجنوب وتسخيرها، فإنه ليس لها ما يكفي من الأيدي ومن الوقت والديمومة لاحتواء الشعوب وخنق إرادتها المتعطشة إلى الانعتاق والحياة.
وفعلا، هناك طموح حقيقي إلى بلوغ طور الرشد وسيادة هذه البلدان على قدرها وامتلاك مقدراتها، طموح يعبر عنه حملتُه اليوم ساعين إلى إنجازه في أمريكا اللاتينية وآسيا وجنوب البحر المتوسطي وإفريقيا السمراء، كأنما للاستجابة للفيلسوف الألماني إيمانويل كانط -أحد كبار فلاسفة الأنوار- الذي أجاب عن سؤال “ما الأنوار؟” مسجلا: “إنها خروج الإنسان من قصوره، وهو نفسه المسؤول عنه؛ قصوره، أيّ العجز عن تسخير عقله من دون قيادة الغير، إذ إن سبب ذلك ليس في نقص العقل، بل في انعدام القرار والجرأة لاستخدامه من دون تلك القيادة. فلتكن لك الشجاعة في فعل ذلك” Sapere Aude!: هذا هو شعار الأنوار. وقبل كانط، كان لابن رشد وابن خلدون أن عبرا عن هذه الفكرة نفسها تحت مقولة “وحدة العقل البشري”، ليس بصيغة الأمر بل بالرصد، كما سيأتي من بعد في مفتتح خطاب في المنهج للفيلسوف الفرنسي روني ديكارت: «العقل السوي هو الشيء الأحسن قسمة بين الناس».
المقال من هسبرس