نقلة فرس على رقعة الشطرنج العراقية
تتخذ الاتهامات السياسية المتبادلة في العراق اخيراً منحاً غير مسبوق، لكنه وهو يشي بتطورات ومتغيرات في خريطة القوى، يعكس في المقابل استمرار التخبط الحزبي الفردي خارج سقف الدولة وبعيداً عن تكريس الدولة باعتبارها صانعاً للسياسات الخارجية.
استمعنا اخيراً الى اتهام صريح لقيادات سياسية شيعية بانها باتت جزءاً من «المشروع الاميركي – العربي»، لأنها ابتعدت في مواقفها عن قيادات أخرى تصنف نفسها باعتبارها «محور المقاومة الإيراني»، كما استمعنا في المقابل إلى اتهامات لقوى وشخصيات سنية عارضت النفوذ الإيراني لسنوات بانها باتت حليفة لطهران، ولا يستثني الجدل المواقف الكردية أيضاً.
لكن ما يمكن تأشيره باعتباره متغيراً عاماً في المعادلة يعود إلى أن صراع القوى في الشرق الأوسط الذي كان ينظر ابتداءً من عام 2003 إلى عراقين أحدهما «شيعي يوالي إيران»، وآخر «سني يتبع منظومة القوى العربية وتركيا»، لم يعد صالحاً باعتباره ستراتيجية عامة للجميع بعد سقوط نحو ثلث العراق بيد تنظيم «داعش»، ويمكن أيضاً وضع خط تحت التاريخ نفسه للقول ان إيران بدأت بشكل جاد بفتح خطوط التواصل مع القوى والشخصيات السنية، في الوقت نفسه الذي بدأت فيه الدول العربية بفتح خطوط الاتصال مع القوى والشخصيات الشيعية. وعلى رغم أن الأمر يبدو للوهلة الأولى وكأنه نقلات بالفرس لدول المنطقة الفاعلة على رقعة الشطرنج العراقية، وفقاً لمعطيات الأزمة السورية وهزات المنطقة المتنقلة، فإنه من زاوية أخرى يمثل استجابة طبيعية لمتغير داخلي في طبيعة قراءة القوى السنية والشيعية والكردية لطبيعة الوضع العراقي ولعلاقاتها وأحلافها المستقبلية. ففيما كان القادة الشيعة يواجهون سخطاً شعبياً هائلاً جراء الفشل في بناء الدولة الذي قاد إلى الجرح العميق الذي مثله «داعش»، كان القادة السنة يعيدون قراءة الواقع في ضوء النتائج التي آلت اليها سياسات ما بعد 2003 والمواجهة المفتوحة التي خاضوها متفقين أو مختلفين مع منظومة الحكم. واقع الحال، أن هزيمة «داعش» هي المناسبة التي ذهب فيها الزعماء السنة لإنتاج استدارة كاملة في العلاقة مع إيران، خصوصاً أن طهران التي أصبحت نافذة في الموصل والأنبار وصلاح الدين، وتسعى إلى نفوذ أكثر رسوخاً، كانت مدت يدها لهم مذللة العقبات وأوامر القبض والاتهامات السابقة في حقهم، بل ومستعدة لمنحهم سلطة القرار وحتى سلطة الفساد على مناطقهم إذا شاءوا، وهذه مرحلة انتقالية، شهدت بالتزامن انقساماً خليجياً وعربياً حاداً، تخلله اقتراب قطر حاملة معظم ملفات أصدقائها في الجبهة السنية العراقية من إيران.
ربما كانت القيادات السنية تراقب تودد العرب إلى شيعة العراق، في اللحظة نفسها التي كان القادة الشيعة يراقبون تودد إيران إلى سنته، وكان الكرد الذين قادوا طوال سنوات سياسة توازن ناجحة بين إيران والعرب وتركيا وأميركا، يراقبون بدورهم تلك التنقلات في الخنادق، ويتأثرون بتداعياتها، فتقترب اربيل خطوتين من طهران، فيما تقترب السليمانية خطوة من واشنطن. لكن الفارق الأساسي في حراك إيران وحراك كل دول المنطقة يتعلق في الأهداف على الأرض لا على الورق، فكسب قيادات للمكونات في العراق قد ثبت مراراً انه ستراتيجية غير مكتملة، والشارع اثبت بالأدلة أنه يفكر بمعزل عن القيادات السياسية لأحزابه، وهو شارع غاضب ومستفز من حال التلاعب التي تجري على أرضه وتجازف بمصيره، لهذا يسأل بلا توقف في وسائل التواصل عن الطريقة التي تحول فيها عدو هذه الدولة أو تلك إلى صديق حميم، ويستشيط عندما يتذكر سيل الدماء الذي تسببت به سياسة الاستقطاب نفسها للسنوات السابقة.
ان تتوازن علاقات وانحيازات القيادات الحزبية التي تتحدث باسم المكونات العراقية باعتباره جزءاً من سياق توازن العراق كدولة في علاقاتها الخارجية، فهذا خبر جيد، لكن ذلك مشروط بأن تمنح المكونات عبر زعاماتها الدينية والقبلية والسياسية تلك الدولة المستلبة أولاً حقها الشرعي والحصري في بناء علاقاتها مع محيطها ومع العالم والتأسيس لتوازناتها وفقاً لمصالحها وأولوياتها، وان تغادر بلا عودة مرحلة تسليم سلطة القرار الاستراتيجي إلى زعماء الطوائف المتسببين في الأساس بتحويل بلادهم إلى رقعة شطرنج.