“وزير الإبريق”..
الدرس الثالث من دروس مادة “التاريخ”..
“وزير الإبريق”
رغم أنه لم يتمكن من الحظوة سوى بوظيفةِ “مُنَظِّف مرحاض الملك” في ديوان قصره الذي يجتمع فيه بالوزراء والأمراء ورؤساء الوزراء وبمختلف أعضاء الحاشية وأركان الحكم في الدولة، إلا أنه كان يرى في مؤهلاته وفي ذكائه ما يستحق بموجبهما الترقي في وظيفته، وعدم التسَمُّر عند وظيفة “مُنَظِّف مرحاض الملك”.
ومع أنه كان الأكثر حظوة برؤية الملك والأكثر خدمة له من بين كلِّ حاشيته وأفراد بطانته، بسبب حالَتَيْ “الإسهال المزمن”، و”سلس البول” اللذين كان يعاني منهما جلالتُه، فجعلاه يُكْثِرُ من قضاء حاجته، إلا أنه كان يَرُدُّ على الملك كلما ابتسم في وجهه أثناء دخوله لقضاء الحاجة وسؤاله عن أحواله، وعما إذا كانت لديه طلباتٌ محدَّدَة، بأنه يَنْعُمُ برؤيته أكثر من عشر مرات في اليوم، وهو يكتفي بذلك، فما بعد الحظوة برؤية جلالته من نعمةٍ تُذْكَر.
إلا أن الشيطان وَسْوَسَ له ذات مرة مؤكدا له بأنه وبعد رعايته لمُخْرَجات الملك كلَّ هذا الوقت، وسترِه عورته كلَّ هذه السنين، وبعد كتمه لسَرِّ مرضِ صاحب المقام السامي عن العام والخاص ردحا من الزمن، يستحِقُّ مكافأةً مجزية.
ففكَّر ثم قدَّر، ثم خاف وتوجَّسَ، لكنه أكَّد لنفسه في النهاية أنه يستحق ما فكَّر فيه، واغتنم فرصةَ سؤال الملك إياه سؤالَه المعتاد عما يطلبه ويتمناه، وأجابه بثقة ويقين بأنه يأمل من جلالته أن يُعَيِّنَه وزيرا في الحكومة القادمة التي ستتشكَّل بعد أسبوع.
صرف الملك النظر عن دخول الحمام رغم حاجته الملحة لذلك، بعد أن سمع الرجل يطلب هذا الطلب الجريء، واندهش واستهجن، لكنه ضحك من أعماقه وسأله بتهكُّمٍ واضح:
“وأي وزارة تريد يا أبو خلف، الخارجية أم الداخلية أم ربما أنك تطمع في وزارة الدفاع”؟!
لم تخذل أبا خلف كلمات الملك التهكًّميَّة ولا ضِحْكَتُه المجلجلة أثناء طرحه السؤال عليه، لأنه يعي جيدا ما يريد، فاستدرك قائلا بتواضعِ مُنَظِّف مرحاضٍ حقيقي:
“العفو والمعذرة يا مولاي، ما أنا إلا تابعٌ وملاحقٌ لحاجاتك، وساترٌ لمُخرجاتك، ومُنَظِّفٌ لمرحاضِك، ولا تخرج عن ذلك خبرتي، وما يبعد عن ذلك مطمحي ومُبتغاي، إن كلَّ ما أطمح فيه أن تعيِّنَني وزيرا لـ “الإبريق”.
قطَّب الملك جبينَه، وحدَّق فيه وهو يفكر، ثم هزَّ رأسه سائلا بجدِّيَّة:
“وزير الإبريق يا أبو خلف، وما هذه الوزارة، لم أسمع بمثل هذه الحقيبة الوزارية في أيِّ حكومة من حكومات العالم، هلا أوضحت ليَ الأمر”؟!
تهلَّل وجه منظف المرحاض، وأيقن أنه تمكن من استدراج الملك لينظرَ في طلبه، وبدأ في الشرح الذي حرص على جعله مقنعا:
“يا مولاي، وزير الإبريق مختصٌّ بحاجتك البشرية، وبمخرجات جسدك ونظافة مرحاضِك، وجلالتكم تعرفون أنه لموقفٌ محرجٌ لكم أن تُكثروا من الاستئذان لقضاء حاجتكم وأنتم في قلب الاجتماعات مع أركان الحكم ومع البطانة والحاشية، فهذا يُلْفِتُ النظر إلى ما تعانون منه، وأنا أرغب في أن أجنِّبَكم الحرج يا سيدي، فبسبب علمي بأوقات الضرورة عندكم، أستطيع أن أميل عليكم خلال الاجتماع لأهمسَ في أذنكم مذكِّرا، وجلالتكم تكتفون بهز الرأس بالموافقة أو بالرفض حسب مقتضى الحال، وهكذا يَحسبُ كلُّ الحاضرين أن الأمر شأنٌ من شؤون الحكم بين الملك وأحد وزرائه المقربين، وإننا كي نَحْبُكَ الأمر أكثر، فإننا نخفي على الجميع مهام “وزارة الإبريق”، ونمتنع عن أن نُحَدِّدَ لها مقرا وزاريا أو موازنات، فيحتار الجميع في أمرها ويهابونها، فتكون مراحيضُ جلالتكم وكلّ مُخرجاتِكم محاطة بهالة من المهابة الدائمة، وتقضون حاجتكم دون الشعور بأيِّ حرج من أحد، بل بالعكس سوف يعتقد الجميع عند خروجي لإعداد مرحاضكم، ثم عند حضوري لاصطحابكم، وكأن جلالتكم تُعِدون لأمرٍ جللٍ من أمور المملكة، فيتوجَّسُ الجميع ويزداد تفانيهم في أعمالهم”.
راقت الفكرة للملك، ولم يطل تفكيره في الأمر، وما هي إلا أيامٌ قليلة حتى كان العم “أبو خلف” يحتل منصب “وزير الإبريق” في الحكومة الجديدة، وبالشكل الذي اتفق عليه مع الملك.
لم يجرؤ أحد على سؤال الملك أو حتى “وزير الإبريق” عن هذه البدعة الجديدة، وزاد شعور جميع الوزراء ورئيسهم وقادة الجيش والمخابرات والشرطة ورئيس الديوان وكافة أركان الحكم، بالقلق والخوف من “وزير الإبريق” عندما رأى الجميع أنه الوحيد الذي يجلس إلى جوار الملك مباشرة، وعندما عرفوا أن ليس لوزارته مقرٌّ، ولا اعتمدت لها أيُّ ميزانيات في الموازنة العامة للدولة، بل هالهم أن يكون مُرَتَّب وزير الإبريق لا يتجاوز مرتب أيَّ مراسل أو متابع معاملات في أيِّ وزارة من وزاراتهم.
وبدأت الإشاعات تتطاير.
“أبو خلف” مندوب المخابرات المركزية السري لدى الديوان الملكي.
“أبو خلف” ممثل المحفل الماسوني الأعظم في الشرق الأوسط.
“أبو خلف” مفروض على جلالته من القوى العظمى لمراقبة أداء حكوماته.
بل هو “…..”، أم لعله “…..”، إنه “…..”.. إلخ.
في الاجتماع الأول للملك بحكومته، هال الجميع أن يهز الملك رأسه بالموافقة لوزير الإبريق عندما مال عليه هامسا.
وهالهم أكثر أن ينهض الوزير الهمام ويختفي لحظاتٍ يعود بعدها ليومئَ برأسه لجلالة الملك، فإذا بالملك ينهض معتذرا لوزرائه ويختفي مع وزير إبريقه، ولا يعود إلا بعد نصف ساعة.
وجُنَّ جنونهم عندما تكرَّرَ الأمر أكثر من مرة.
وبدأوا يلاحظون أن الأمر يتكرر عند منعطفات الحديث، وأصبح كلُّ وزير يشك في أن الأمر حصل بعد كلمته وتقديمه لتقريره، فيما لاحظ آخرون تَكَرُّرَ الظاهرة أكثر عند حديث وزير بعينه.. إلخ.
وراحت التحليلات تتطاير والتخَوُّفاتُ تسيطر على الجميع.
وراح الجميع يتقربون من “وزير الإبريق” ويكثرون من دعوته وتَحَرِّي رضاه، لعلهم يحظون منه بما يشفي غليلَهم ويطمئنَهم، لكن بلا أدنى فائدة، فأدرك الجميع أن “وزير الإبريق” كارثة وحاقت بهم.
استمر الحال على هذا النحو إلى ما قبيل اقتراب موعدِ حَلِّ الحكومة وتشكيل حكومة جديدة، حيث طلب الملك من رئيس ديوانه أن يصطحبَه في رحلةٍ إلى أرجاء المملكة كي يطَّلِعَ على منجزات الحكومة خلال السنوات الماضية.
في الطريق لمح الملك مزرعة واسعة جدا مليئة بمختلف الأشجار المثمرة، وقد تفجَّر منها بئر ماء جعلها جنةً غناء، فسأل رئيس ديوانه:
“لمن هذه المزرعة”؟!
فأجابه:
“لوزير الإبريق يا مولاي”.
في الأسبوع التالي وفي محافظة أخرى:
“لمن هذا القصر”؟!
“لوزير الإبريق يا مولاي”.
في الأسبوع الثالث في محافظة ثالثة:
“ولمن هذا البرج الضخم”؟!
“لوزير الإبريق يا صاحب الجلالة”.
وتوالت الأسئلة والإجابات..
لمن هذا المصنع.. لوزير الإبريق..
لمن هذه البحيرة.. لوزير الإبريق..
لمن هذه الطائرة الخاصة.. لوزير الإبريق..
لمن هذه المدينة السكنيَّة.. لوزير الإبريق..
كان الملك يضحك بملء فيه مع كل إجابة يتلقاها على سؤالٍ يطرحه.
وعندما اجتمع الملك برئيس حكومته ووزرائه ومختلف أركان حكمه كي يستشيرهم في تشكيلة الحكومة القادمة، وكان قد تعمَّد جعل وزير الإبريق يغيب عن الاجتماع، فوجِئَ وهو يسألهم عمن يرشحونه لرئاسة الحكومة القادمة، على إجماعهم دون أن يشذ عنهم واحد بأنهم يرشحون “وزير الإبريق” معالي “أبو خلف” لرئاسة الحكومة القادمة، فهو الأكثر كفاءة والأقدر على خدمة الوطن تحت ظل صاحب الجلالة.
تبسَّم الملك وهزَّ رأسه، لكنه قال مُحرجا:
“ولكني لا أعرف من أستطيع ترشيحَه منكم لحقيبة “وزارة الإبريق” بدل “أبو خلف”، فالوضع مُحْرِجٌ لمقاماتكم ولخبراتكم، لذلك أرجو أن يكتب كلٌّ منكم على ورقة يقدمها لي سرا إن كان يوافق على تولي هذه الوزارة أم لا، وأنا سأختار واحدا ممن يقبلون، وإن لم يقبل منكم أحد بهذه الوزارة فسوف أضطر للإبقاء على معالي “أبو خلف” في منصبه وتكليف أحدكم بتشكيل الحكومة”.
كتب كلُّ واحد من الحاضرين موقفه مما طرحه الملك في ورقة وسلَّمها لجلالته.
كانت المفاجأة التي أضحكت الملك ضحكا أثار استغراب الجميع، أن كلَّ واحد من الحاضرين وافق على أن يكون وزيرا للإبريق، بل وأكدوا جميعا على أن هذه ثقة غالية يتمنون الحظوة بها من جلالته.
من صفحة الاستاذ سعيد الشيخ
105 تعليقات