النفط الصخري يعزز نفوذ شركات النفط الأميركية وطاقاتها
انطلقت صناعة النفط الصخري الاميركية على طريق جديد، مع توصل انتاج النفط الصخري الى نحو 8 ملايين برميل يومياً في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، ما زاد الإنتاج الأميركي الصخري والتقليدي الى رقم قياسي بلغ 12.2 مليون برميل يومياً.
ورفعت الطاقة الإنتاجية العالية للولايات المتحدة، بفضل النفط والغاز الصخري، شهية الشركات النفطية الأميركية العملاقة للاستثمار في هذه الصناعة الجديدة بدلاً من حصرها بيد الشركات الاستثمارية الصغيرة التي بادرت بإطلاق صناعة البترول الصخري تجارياً. وأخذت شركة “اكسون موبيل” و”شيفرون” وغيرهما من الشركات العملاقة بالاستثمار في هذه الصناعة، ما وفر زخماً قوياً كانت الصناعة والشركات بحاجة لها.
الشركات الاستثمارية كانت بحاجة ماسة الى التمويل الضخم لصناعة البترول الصخري، والشركات العملاقة بحاجة الى مصادر نفطية ضخمة جديدة ذات امدادات كثيفة لتوسع هيمنتها على الأسواق الدولية، من دون الحاجة الى تبني سياسات “أوبك” وحلفائها في توازن الأسواق، ما يؤدي الى خفض الإنتاج في بعض الأحيان. وهذا ما هو حاصل فعلاً خلال النصف الأول من هذا العام، ولربما يمتد خفض الإنتاج الى نهاية العام الحالي، بناء على حجم المخزون النفطي التجاري. لكن تحاول “أوبك” والحلفاء خلال النصف الأول من هذا العام خفض الإنتاج 1.2 مليون برميل يومياً لتقليص الفائض النفطي التجاري الذي تغذيه زيادة الصادرات النفطية الأميركية. فهدف “أوبك” وحلفائها منع تكرار ظاهرة تدهور الأسعار كما حصل بين عامي 2014 و2016 من خلال تقليص الانتاج، ولكن الولايات المتحدة التي ترفض لأسباب سياسية وقانونية التعاون مع “أوبك” وتتبنى في الوقت ذاته سياسة ثلاثية الابعاد، وهي زيادة الحصار ومقاطعة بعض الدول النفطية لأسباب سياسية، مثل ايران وفنزويلا، ما يقلص الامدادات العالمية ويزيد من الأسعار، في الوقت ذاته الذي لا ينفك الرئيس دونالد ترامب التغريد أن الأسعار عالية ومضرة للاقتصاد العالمي.
وانتهزت الشركات الفرصة التي اتاحتها لها صناعة النفط الصخري بزيادة الإنتاج والصادرات في نفس الوقت الذي تقوم به “أوبك” وحلفائها بتقليصه، الامر الذي أدى الى التخمة في المخزون العالمي مرة أخرى خلال هذا العقد. لقد أصبح من الواضح ان الإنتاج الأمريكي المتزايد يحل محل التخفيضات التي تتحمل مسؤوليتها وتنفذها أكثر من غيرها كلا من الدولتين المنتجتين الكبريين في التحالف، أي السعودية وروسيا. وستشكل هذه السياسات المختلفة بل المتناقضة فرصة لدول التحالف لاستقرار الأسواق بالسرعة اللازمة.
واستطاعت السعودية اعتماد سياسة دور المرجح من خلال الطاقة الإنتاجية العالية المتوفرة لها وزيادة الإنتاج منها اذا تطلب الامر. وعلى رغم ان هذه الأدوات لا تزال متوفرة للسعودية، بالذات مع زيادة طاقتها الإنتاجية المستقبلية من مستواها الحالي البالغ 12 مليون برميل يوميا الى 15 مليون برميل يومياً، وما ساعد على استمرار “أوبك” وحلفائها استمرار تبني سياسة دور المرجح، بالذات للتعاون النفطي السعودي – الروسي بشكل وثيق وجدي منذ العام 2016.
من المعروف ان سياسة دور المرجح تتحمل نفقات عالية جدا، منها تخفيض الإنتاج من بعض الحقول والابار لفترة طويلة. من ثم، سيشكل غياب تنسيق السياسات مع الدول الثلاث المنتجة الكبرى الى امتداد فترة الدور المرجح لمنظمة “أوبك” وحلفائها. وبالفعل اشتكت وعارضت بعض الشركات الدولية العاملة في اقطار “أوبك”من تبني الدول المنتجة تخفيض الإنتاج التي تقررها “أوبك”. وقد تكررت هذه الاعتراضات من قبل بعض الشركات في روسيا نفسها، نظرا لالتزام الشركات بمواعيد كانت قد اعتمدتها لتطوير الحقول.
اخذت تبرز القوة الجديدة للشركات من خلال الاستثمارات الواسعة والاكتشافات الضخمة خلال العامين الماضيين. لكنها أصبحت بارزة وواضحة للعيان مع مستويات الإنتاج القياسية الامريكية في الآونة الاخيرة. وتدل التوقعات ان ولوج الشركات صناعة النفط الصخري سيأخذ مدى أوسع في المستقبل القريب. فقد ركزت الشركات العملاقة أهدافها في تطوير حقلي “بيرمين” الضخم في ولايتي تكساس ونيومكسيكو و “باكين” الضخم في ولاية “نورث داكوتا”. تم اكتشاف حقول ضخمة في الحوضين . كما يتوقع المراقبون ان هذه الشركات ستستطيع ، بفضل تخفيضها للنفقات والتقدم العلمي ونجاحها في تحقيق الاكتشافات الضخمة، تحقيق الأرباح حتى في حال انخفاض الأسعار إلى 35 دولاراً للبرميل.
من المتوقع ان يبدأ الإنتاج الضخم من الحوضين “بيرمين” و”باكين” خلال النصف الأول من العقد المقبل (2020-2025). والسبب الرئيس لتأخير الإنتاج الضخم هو انتظار الانتهاء من تشييد الانابيب والخزانات وموانيء التصدير لاستيعاب الكميات الضخمة المتوقعة. وبدأ العمل فعلاً في البنية التحتية حيث تتوقع إدارة معلومات الطاقة الأميركية أن يرتفع انتاج الولايات المتحدة الى 13 مليون برميل يوميا بنهاية 2020 مقارنة بحوالي 12.2 مليون برميل يوميا في الوقت الحاضر. وتتوقع إدارة معلومات الطاقة ان يبلغ مستوى الإنتاج الأميركي نحو 24 مليون برميل يوميا بحلول 2025.
هناك، كما في أي صناعة جديدة، تحديات عدة. ففي صناعة النفط الصخري ، هناك الامدادات الإضافية المتوقعة من النفط الخفيف جدا لحقول النفط الصخري. ومن المتوقع ان يترك هذا الإنتاج المتزايد للنفط الخفيف جدا بصماته على الصناعة النفطية الدولية، للأسباب التالية:
أولا: زيادة ضخمة مستمرة للإمدادات النفطية الامريكية من النوع الخفيف جدا، وعدم توفر الأنواع الأخرى من النفوط (الثقيل والمتوسط والخفيف)، مما سيعني ان المصافي العالمية، ومن ضمنها الامريكية، ستستمر في اللجوء الى الاستيراد والاعتماد على امدادات دول أخرى تستطيع ان توفر أنواعا مختلفة من النفوط.
ثانيا: هل ستنافس الشركات بدعم او بغير دعم من الحكومة الأميركية، اقطار “أوبك” وحلفاءها (من ضمنهم روسيا) في الهيمنة على الأسواق ، بعد قرارات “أوبك” التاريخية في أوائل عقد السبعينات في نقل قرار الإنتاج الى الدول المنتجة بدلا من الشركات. لكن هنا سيطرح سؤالا جديدا. فمع حيازة الشركات هذه الطاقة الضخمة في الولايات المتحدة نفسها، أي خارج حلقة الدول المنتجة الأخرى (أوبك وحلفائها)، ومع سياسة أمريكية علنية لاستعمال سلاح النفط (الحصار والمقاطعة) لدعم سياستها الخارجية ضد “الدول المارقة”، بل وحتى محاولتها للضغط على اوروبا بتقليص استيرادها للغاز الروسي بحجة الأمن الطاقوي لأوروبا، بينما السبب الرئيس هو زعزعة الاقتصاد الروسي. . فهل سيتطور هذا التعاون ما بين الشركات و الحكومة الأميركية الى استعمال سلاح النفط الأميركي للضغط على الأسواق كما هو يستعمل للضغط على الدول “المارقة” ، ام هل ان هذه سياسة مؤقتة ومحصورة بإدارة الرئيس ترمب ؟ وهل ستلعب هذه السياسة دور المنتج المرجح في الأسواق العالمية للتأثير على الأسواق والاسعار. وهل يمكن اعتماد هذه السياسة وما يتبع عليها من مسؤوليات وتكاليف ، وبالذات فيما يتعلق بالشركات نفسها، التي من أولوياتها توزيع اكبر عائد ممكن للمساهمين؟ وهل من المصلحة الامريكية تخفيض الأسعار وهي بصدد بروزها كدولة مصدرة.
من المعروف ان الولايات المتحدة كانت تتطلع منذ منتصف السبعينات الى تغيير ميزان الطاقة الأمريكي من اكبر مستورد للطاقة عالميا ، لتتحول الى دولة مكتفية ذاتيا، وفك اعتمادها على الدول المصدرة (العربية منها بالذات ) وقد حققت واشنطن هذا الامر حاليا مع اكتشاف البترول الصخري. طبعا، اذا تبنت الإدارات ولشركات الامريكية هذه السياسات سيعني هذا عودة النظام النفطي العالمي الى وضع جديد يختلف عما هو عليه منذ أوائل السبعينات، وحيث ستتمكن الشركات ان تلعب دورا شبيها بدورها ما قبل 1970-1973، عندما قررت “أوبك” اخذ زمام المبادرة في تقرير سياسات الإنتاج ولعب الدور المرجح في الأسواق لاستقرار الأسعار.
وليد خدوري- كاتب عراقي متخصص في شؤون الطاقة.والمقال من الحياة