كان من الطبيعي جدا في حراك سياسي عظيم كالذي عاشته الجزائر في الأسابيع الماضية أن تتسرب إلى “التسونامي” الهائل شعارات وأفكار تشبه ما يمكن أن يحمله سيل عرمرم يجتاح في طريقه كل شيئ.
وكنت أشرت إلى رفع بعض الشباب رايات لا علاقة لها بالراية الوطنية، كان هدف من وضعوها في أيديهم استثمار وجود كاميرات التلفزة لإعطاء الشعور بقوة تيار معين في إطار الحراك، كما كانت هناك محاولة مجموعة محدودة تسريب شعارات معينة، اكتشفت الجماهير بعضها فاستبعدته، مثل الشعارات الواضحة لاتجاه “الفيس” (الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة) ولم تتوقف عند بعضها الآخر لأنها لم تكن واضحة المعالم الإيديولوجية مثل “الجزائر، حرة ديموقراطية”، الذي ابتكره اتجاه “الباكس” (الحزب الشيوعي القديم) وتلقفته شرائح من الجماهير لسهولته وبساطته وجمال تعبيره.
غير أن هناك شعارات أخرى رُفعت من قبل من يُطلقون على أنفسهم “ناشطين سياسيين” لتعبر عن خلفيات، بعضها لا يدركه كل من رفعوا الشعار، ومن بينها المطالبة الحماسية بجمهورية ثانية.
وواقع الأمر هو أنني كنت أول من فكر في هذه التسمية عندما كنت أعدّ العدة للانتخابات الرئاسية إثر وفاة الرئيس هواري بو مدين في 1978، وتكليف الرئيس الشاذلي بن جديد لي بتنظيم حملته الانتخابية، وأعجبتني التسمية لأن فيها جديدا يمكن أن يستقطب حماس الجماهير، لكنني لم أندفع لرفع الشعار لأنني كنت مسكونا بشعار آخر قد يتناقض معه، وهو الشعار الذي كنت أريده لعهدة الرئيس الجديد، أي “التغيير في إطار الاستمرارية”.
ولم أتسرع في استعمال شعار “الجمهورية الثانية” برغم تحمسي له في البداية، ورحت ألقي نظرة على العالم من حولنا، فلم أجد بلدا واحدا استعمل هذا التعبير إلا فرنسا، ورحت أقلب الأمر من جديد، لأن كل ما يرتبط بالمستعمر السابق له حساسيته الخاصة عندي وعند كثيرين.
وكنت أعرف ضغوط الشوفينية الجغرافية على الفكر الفرنسي، وتؤثر على الفرانكوفونية نفسها، وتعمل على استئصال الكلمات والتعبيرات غير الفرنسية ليتم ابتكار كلمات جديدة، كما تم بالنسبة لكلمات كثيرة مثل مصور التلفزة (cameraman) الذي أصبح يُسمّى (cadreur) وأنبوب البترول (pipe-line) الذي أصبح يُسمّى (oléoduc).
غير أن الشوفينية بلغت أقصى حدودها في الأرقام، فعندما ابتكر البلجيكيون المفرنسون كلمة (septante) لتدل على رقم سبعين، تمسك الفرنسيون بالكلمة المركبة (soixante-dix) أي “ستين وعشرة”، وأكثر من ذلك عندما استعمل السويسريون المفرنسون كلمة (nonante) لتدل على رقم 90 ظل الفرنسيون متمسكين بكلمة (quatre-vingt dix) أي “أربع عشرينات وعشرة”.
ووجدت يومها أن عندنا من يتمسك بتعبيرات خاصة لا تستعملها إلا بلاد الجن والملائكة كما يسمونها، ومن بينها تعبيرات القيم “الجمهورية” والفضائل “الجمهورية” والتزامات “الجمهورية”.
واستعمال التعبير في فرنسا مفهوم بالنسبة لظروف ترتبط بصراع الملكية مع الكنيسة في مرحلة ما، لكن التمسك به عندنا لا يمكن إلا أن يُعتبر استلابا بكل المعاني، إذ أنه ليس هناك بلد واحد في العالم يستعمل هذا التعبير كبديل عن تعبير “الوطنية” أو “الديموقراطية”، بما في ذلك أكبر الجمهوريات، أي الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية روسيا الاتحادية وحتى إيطاليا وسويسرا وغامبيا.
ولأنني أكره الفرانكوفيلية، وليس الفرانكوفونية لطفا، أكره من يتمسكون بنفس التعبيرات الفرنسية التي تعبر عن شوفينية فرنسية واضحة، ويتحمسون لها وينددون بمن يتفادى استعمالها، ومنهم من يهاجموننا بشراسة لأننا نرفض صفة “الجمهورية” ونفضّل صفة “الوطنية”، التي يتحسسون منها لمجرد أنها مرفوضة في فرنسا ومرتبطة باليمين المتطرف.
وأتذكر أن الرئيس فرنسوا متران قال يوما في خطاب رسمي بأن “الوطنية” تعني الحرب (le nationalisme c’est la guerre) وبالطبع فقد كان التاريخ القديم مع ألمانيا هو خلفية ما قاله، لكن هذا يظل مقصورا على الفكر الفرنسي والتوجه الفرنسي.
وهكذا نفرت من تعبير “الجمهورية الثانية” حتى لا نقتدي ببلد عرف خمس جمهوريات وثلاث ملكيات وامبراطوريتين، حسب ما أتذكر، وأنا لا أعرف بلدا واحد يعطي رقما لجمهوريته، حتى البلاد التي عرفت بانقلاباتها.
وبالنسبة لي كوطني، بل وكمواطن، هناك جمهورية واحدة هي جمهورية نوفمبر، والتي يتطور نظامها مع تطور الزمن ونضج الأجيال ومتطلبات الحداثة، وليس من الضروري أن تحمل أرقاما، جمهورية تعتز بتاريخها العريق وبماضيها الثوري وبنظامها المنبثق من تجربتها الوطنية، ومع الاعتراف بأننا لم نصل بعدُ لتحقيق الهدف السامي من بيان أول نوفمبر، لأن كل ابن آدم خطّاء، وهو ما لا نخجل من الاعتراف به وما نواصل العمل لتحقيقه.
ومن هنا فإن كل تسمية رقمية للجمهورية هي، في رأيي، التفاف مشبوه حول أهداف ثورة نوفمبر، بكل ما تجسده من اعتزاز بالعمق التاريخي النوميدي أو الأمازيغي، والتزام بالانتماء الحضاري العربي الإسلامي، وأنا أتفهم جيدا أن كثيرين ممن نادوا بجمهورية ثانية فعلوا ذلك بحسن نية، لأنهم يتوقون لتغيير الوضعية المؤسفة التي نعيشها، وخصوصا في السنوات الأخيرة، ولكن علينا أن نحذر مما يبدو كصيحات حق من المؤكد أن المراد منها هو باطل بكل المقاييس، حيث أن من يدفعون نحو هذا الاختيار يريدون وضع مرحلة الاستقلال بأكملها في سلة مهملات، ويتناسون كل إنجازاتها التي تحققت بسلامة الرجال في كل الميادين وكل المستويات، وبغض النظر عن نظام الحكم أو تتابع الحكام، ومع الاعتراف بالكثير من الأخطاء والعثرات.
لكن القوم يريدون وضع سبعين سنة بين قوسين لأن بعضهم كان خلالها، ظلما أو عدلا، مهمشا، ولأن كثيرا منهم لم يضعوا فيها حجرا على حجر، ومعظمهم ممن يأكلون الغلة ويسبّون الملّة.
وهذا يذكرني بمن ينادون بهدم كل شيئ تحت شعارٍ فيه الكثير من الصحة، وهو أنه لا يمكن بناء سفينة جديدة بخشب قديم، وواقع الأمر أن بعض من يدفعون في هذا الاتجاه هم من يخافون من الحساب إذا لم يتم هدم كل هياكل الدولة القائمة، وهم يريدون تدمير كل ما يمكن أن يكشف جرائمهم المالية والسياسية، ولو استطاعوا حرق تحويلات البنوك وقوائم القروض لفعلوا.
والذين يرددون حكاية السفينة لا يعرفون أن السفن الخشبية راح زمنها، وبأن السفن اليوم تصنع من الحديد الصلب، وبأن الحديد القديم أصبح يُصْهر ويُعاد استعماله.
وربما كان أسخف ما سمعته هو وصف “الانقلاب الأبيض” الذي أطلقه سياسي هاوٍ، شكك يوما في قيمة الشعب، تعليقا على الموقف الذي عبر عنه الفريق أحمد قايد صالح بخصوص تطبيق المادة 102 من الدستور للخروج من الأزمة الحالية التي أشعلت نارها قضية العهدة الخامسة، ثم تمديد العهدة الرابعة، وهو موقف رزين للمؤسسة العسكرية، التي لا تتجسد في فرد مهما علت رتبته، وهو يعبر عن مطلب كثيرين كنت من بينهم.
والغريب أن هناك من راح يشكك فيما قاله رئيس الأركان بالقول إن ذلك موقف كان يجب أن يتخذ منذ زمن بعيد.
وربما كان هذا مأخذا معقولا لو كان قايد صالح هو المسؤول الأوحد في البلاد، وليست هناك مجالس تشريعية وأحزاب تمولها الدولة ومجتمع مدني متضخم، ولو لم تكن هناك مطالبات ملحة ومتتالية من المعارضة للجيش بالتدخل، وآخرها منذ أيام.
والأكثر غرابة هو أن من يقول ذلك يضيف، متناقضا مع ما سبق له قوله وبهدف إفشال الاقتراح، بأن المسؤول عن اتخاذ قرار الشغور هو المجلس الدستوري وليس رئيس الأركان، وهي واحدة من الألاعيب القانونية التي تسمى (vice de forme) أو العيوب الشكلية التي يُفسد بها محامٍ ماهرٍ إجراءً قانونيا يحقق العدالة.
ولم يعُدْ سرا أن جلّ المنددين والمشككين والساخطين واللائمين يمثلون اتجاها واحدا موحدا متحدا، لعل اهتمام بعض قنوات التلفزة الأجنبية وبعض المراسلين بالترويج له يعطي فكرة عن خلفياتٍ وتوجهات إيديولوجية معينة وعن مصالح سياسية ومالية مترابطة بين الداخل والخارج، ولن أقول أكثر حتى لا أتهم بأنني لا أثق في ذكاء القراء الذين يتابعون الأحداث، والذين سيدركون أكثر باطلاعهم على من يهاجمون هذه السطور المتواضعة.
وهكذا أصبحت الضجة المفتعلة على التطبيق العملي للدستور، والذي اقترحته المؤسسة العسكرية على لسان رئيس الأركان للخروج من الأزمة، محاولة واضحة للتغطية على مطالبة بعض من يرفعون راية المعارضة بتشكيل مجلس رئاسي، لا توجد أي إشارة له في الدستور، وهو فكر انقلابي مفضوح دعت له مجموعة لفظتها الجماهير، وطردت من حاول من عناصرها الالتصاق بالحراك، وهؤلاء أنفسهم كانوا يستجدون القوات المسلحة لكي تتدخل، بأمل أن تضعهم على رأس الدولة.
وأدرك الكثيرون أن رفع سقف المطالب الجماهيرية بشعارات من نوع “فليرحل الجميع” هو محاولة لتأزيم الوضع واستفزاز الجيش إلى التدخل لكي يقدم السلطة على طبق من فضة لأقليات إيديولوجية وعناصر ملفوظة جماهيريا، استنساخا لما عرفته الجزائر في 1992، وكان نقطة انطلاق للعشرية الدموية.
وكان المضحك إلى درجة البكاء استجداء تعاطف الجماهير بالحديث عن الشرعية الشعبية، ومحاولة التغني بالمادة السابعة من الدستور التي تقول بأن السيادة هي للشعب، وهو ما ردده قياديون لم يعرف عنهم أي نجاح سياسي طوال مسيرتهم الحياتية، يتناسون أن الشعب يمارس سيادته عبر المؤسسات التي يقيمها دستور البلاد ومهما كانت المساوئ التي يمكن أن تنسب لها، ظلما أو عدلا، لأن تطبيق قانون للمرور، ولو كانت به ثغرات، هو أكثر ضمانا لأمن الراجل والسائق والمجتمع من تجاهل القانون.
ويبقى أن استمرار الحراك الشعبي ووعيه بكل المعطيات وحرصه على السلمية والتفافه حول العلم الوطني، والعلم الوطني وحده، هو ضرورة حيوية لتفادى أي انزلاق سلطوي، وربما جاء الوقت لتأطير الحراك عن طريق تنظيم تجمعات فئوية تختار ممثلين يجب أن يكونوا طرفا في الحوار مع السلطة، وبوجه خاص تنظيم تجمعات لأساتذة الجامعات وللقضاة ورجال القانون، أي للأكثر مقدرة على الصياغة المثالية لمطالب الجماهير الحيوية، وبحيث لا يترك أمر الحديث باسمها للعباقرة الذين يتزاحمون على القنوات الفضائية، ويعبرون عن خلفيات إيديولوجية معينة أو مصالح مالية وأطماع سياسية تقف وراء الكثير مما نعانيه، وبعضهم من الشيوخ الذين يتناقض وجودهم مع المناداة بتسليم المشعل للشباب.
ومن هنا تأتي ضرورة حماية التظاهرات الجماهيرية الرائعة التي أثارت إعجاب العالم كله ممن يحاولون إلهاب حماسها برفع سقف المطالبات وإلهاب المزايدات لتتحول إلى ما يسمى “جنون الحشود”، وهو ما يعني ببساطة شديدة الوصول بالأزمة إلى ما لا تحمد عقباه.
وأذكّر بقوله تعالى في سورة الكهف: “قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا”. صدق الله العظيم.
دكتور محي الدين عميمور- مفكر ووزير اعلام جزائري سابق والمقال من رأي اليوم