الجزائر: السجين في قفص زجاجي/ دكتور محيي الدين عميمور
30 مارس 2019، 18:13 مساءً
كنت أتابع، عبر عدة قنوات تلفزية، الحراك الشعبي الهائل في جمعته السادسة، وأحاول التمعن فيما أراه وأسمعه، ولا أخفي أنني كنت فخورا بالمناظر الحماسية العفوية التي أعطت العالم أجمع صورة لم يكن يعرفها عن الشارع الجزائري، خصوصا وقد بدا أن الأغلبية الساحقة من المتظاهرين كانت تتحرك تلقائيا وتهتف بحماس واضح، بدون أن تلقي بالا لكاميرات التلفزة أو آلات التصوير التي كانت تتابع الحراك، أو تستجدي اهتمام الإعلاميين الذين يملؤون المكان، وربما اهتم البعض أكثر بصور “السيلفي”، موضة هذا العصر.
ولم أفاجأ كثيرا ببعض من راحوا ينقضون على ميكروفونات التلفزة ليعبروا، وكلهم بنفس الكلمات تقريبا، عن مواقف يقدمونها كتعبير عن الانتفاضة الجماهيرية الرائعة، وكانوا، في معظمهم، من غير الشباب، ولا يبدو من تعبيراتهم أنهم من النخبة المثقفة، وبعضهم اعترف بأنه جاء من ولايات أخرى للتضامن مع حراك العاصمة، ولم يكن في هذا ما يعيب الحراك في شيئ، حتى وإن كان معظم أولئك يرددون، وكأنهم أسطوانة مسجلة سلفا، كلمات “الشرعية الشعبية” التي استعملها بيان المعارضة الأخير، ويطالبون، بآلية واضحة، بتطبيق المادة (7) بدلا من المادة (102) وبحيث تملكني الشعور بأنهم لم يقرؤوا المادتين، وخاصة المادة (7) حيث لم تُربط بالمادتين (8) و (9) ربما لأن أحد لم ينبئهم بمحتواهما، وهكذا راحوا يركزون على ضرورة أن يتنحى الجميع، ووصل الأمر إلى ترديد إشاعات غير صحيحة عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن جنسية رئيس مجلس الأمة، المكلف برئاسة الدولة في حالة إعلان الشغور الرئاسي.
ومن هنا تملكني شعور قوي بأن محاولة بعضهم ركوب موجة الحراك أخذت أسلوبا آخر، غير بيانات المعارضة التي طُردت قياداتها عندما حاولت الانضمام إلى حركة الشباب، وغير الأعلام التي رفعت وكانت تحمل رموزا معينة، أو اللافتات الضخمة باللغة الفرنسية والتي تدين تطبيق مادة الشغور الرئاسي الدستورية، أو الهتافات ذات المنحىً الإيديولوجي المعروف كما سبق أن قلت، وهذا الأسلوب الجديد هو التجمع حول ميكروفونات التلفزة وافتكاكها للتصريح بما يخلق الشعور لدى المشاهد بأن ما يسمعه منهم وحدهم هو رأي الملايين الذين يحتشدون في كل الشوارع والميادين، وينادون بهتافات لا يستطيع المشاهد غالبا أن يتبين مضمونها.
وكان واضحا أن هناك من يهدف إلى خلق ضغط دولي ووطني على من يملك القرار لتنفيذ حلم أقلية لا تمثل إلا نفسها، والتي تتشنج في المطالبة بتكوين هيئة دستورية تعطيها اليد العليا لتنفيذ ما لا يمكنها تحقيقه عبر التطبيق السليم للدستور، وهو ما جعل أحد المرفوضين شعبيا يطالب بعزل رئيس أركان الجيش، الذي كان يجب، منطقيا، أن يُعتبر موقفه استجابة لمن كانوا يستجدون تدخله، وإن لم يكن لنفس الهدف الذي تجسد في تطبيق المادة المتعلقة بحالة الشغور.
وأعترف أن ما بدا من تناقض في الشعارات وفي الأهداف، بين ما يحقق الأهداف الحقيقية للشعب وما يستجيب لبعض الأطماع السياسية، كان يضاعف من مشاعر السخط في نفسي على المسؤول الذي وصل بنا إلى وضعية شرخ وطني لم يكن له مبرر، وتذكرت ما كنت كتبته هنا في مارس 2014، وقبل الانتخابات الرئاسية آنذاك، وشعرت بالأسى لأن الرئيس لم يأخذ برأي مثقف، كان وقف إلى جانبه بكل حرارة في انتخابات العهدتين السابقتين، ودخل في صراع مع كثيرين، مباشرة وعبر برامج التلفزة في الداخل والخارج، للدفاع عنه، ورفض تعبير “الأقل سوءا من بين المرشحين”، بل وتناسى أنه عزل من منصبه الوزاري بدون مبرر من تهاون أو تقصير.
كتبت يومها، في هذه الصحيفة الإلكترونية وفي صحف جزائرية من بينها صوت الأحرار، أقول بكل أدب واحترام: “لو استشارني مرشح من المرشحين في تقدمه للمنصب السامي لكنت قلت للبعض أن يتقي الله في نفسه وفي أمته، وأن يستمع إلى همسات الشارع قبل أن تتحول إلى هدير يصم الآذان.”
وشعرت بالأسف لأن المعني بالأمر لم يتوقف عند ما قلته إثر قرار التقدم لعهدة خامسة: “إذا كان هذا قرارك فهو خطأ وإذا كان قرارهم فهو خطيئة.”
ورحت أتساءل: ألم يكن بجانبه من يقدم له ملخصا عمّا نقوله، أم أنه كان يعيش داخل قفص زجاجي لا يسمع فيه إلا صوته ولا يرى من خلاله إلا ما يراد له رؤيته.
ورأيتُ أن أعود إلى الخلف لأسترجع بعض تفاصيل ما يحدث على مستوى القمة، ليفهم القارئ سبب ما أعيشه من تناقض، ربما لأنني أشعر أنني لست وحدي في ذلك، ومن حق من لا يحب حديث الذكريات أن يبحث لنفسه عن موضوع آخر وما أكثرها في هذه الجريدة الثرية.
كنت ساهمتُ، بناء على دعوة شخصية، في لقاء مؤسسة الفكر العربي في بيروت الذي عُقد في ديسمبر 2003، بناء على دعوة شخصية من الأمير خالد الفيصل، وعرفتُ إثر وصولي أن من بين المتحدثين رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، ثم فوجئت بأن الرئيس عبد العزيز بو تفليقة سيصل في اليوم التالي إلى العاصمة اللبنانية وسيخاطب المؤتمرين، كما فوجئت أيضا أن من بين المدعوين السيدة خالدة تومي وزيرة الثقافة، أو خليدة كما تحب أن تُسمّى.
وتعبير “فوجئت” هو تعبير مقصود، فقد كانت فضيحة كبرى بالنسبة لي أن أفاجأ، وأنا أمثل لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الأمة، بأن رئيس جمهوريتي مدعو لإلقاء كلمة في مؤتمر المؤسسة، حيث لم تخطر بذلك لجنتي، وهي لجنة سيادية في البرلمان الذي هو مؤسسة سيادية، مع العلم بأنني أبلغتُ رئاسة المجلس “كتابيا” بالدعوة التي وُجهت لي للمشاركة في لقاء بيروت، وتلقيتُ تصريحا “مكتوبا” بالمشاركة.
أما لماذا لم يحدث توزيع للمعلومات فهذا راجع، على ما يبدو، إلى أن مصعد المجلس كان معطلا، والله أعلم.
كانت علاقاتي بالوزيرة محدودة، ولعلها كانت محكومة بنظرتي لعدد من مواقفها التي كنت أرفضها طولا وعرضا، لكنني، ونحن خارج الوطن، تعاملتُ معها بالاحترام الذي يفرضه التعامل مع الوزير، وخصوصا إذا كان سيدة، وهكذا قدمتها لمن أعرف من المثقفين.
وتأكد إحساس كان يراودني منذ فترة، هو أن هناك ستارا حديديا يفرضه البعض حول الرئيس الجزائري ليحولوا بينه وبين أي اتصال بأشخاص معينين، فقد كانت الوزيرة تريد أن نتوجه إلى مطار بيروت لنكون في استقبال الرئيس، ولكن رجال التشريفات الجزائريين، وبعد استشارة مديرهم أو من يُشير عليه، رأوا غير ذلك، وأبلغوها به عبر سفيرنا في لبنان، فظلت تغلي غضبا قائلة بأنه كان علينا، هي، بصفتها الوزارية، وأنا، بصفتي ممثلا للجنة الشؤون الخارجية بمجلس الأمة، أن نكون في استقبال الرئيس عند نزوله من الطائرة، على الأقل احتراما لرئيسنا أمام الآخرين.
وتملكني شعور غامض بأن وجودي هو الذي أدى إلى منع الوزيرة، المعروفة بصداقتها مع الرئيس، من المشاركة في استقباله على أرضية المطار.
ولم أكن أعرف نوعية الاتفاق بين مؤسسة الفكر العربي ورئاسة الجمهورية الجزائرية، ولا العناصر التي يشملها البرنامج، وبرغم أنني كنت من الذين تحمسوا للمؤسسة وتعاملت معها منذ بداياتها وكما سبق أن قلت، فإن أمينها العام المصري ومساعدي الأمير خالد لم يحاولوا إطلاقا الحديث معي حول تنظيم مشاركة الرئيس، وهم يعرفون سابق تجربتي في مثل هذه القضايا، لكن يبدو، وكما سبق أن قلت أيضا، أنهم أحسوا بشكل ما، من طرف ما، بأن “جماعتنا” ليسوا متحمسين لمشاركتي شخصيا في أي أمر يتعلق بالوفد الرئاسي، وهو ما يعني أن الأمر لم يكن عفويا ولا كان صدفة، وهو ما أعاد إلى ذاكرتي قضايا أخرى كان فيها حرص بالغ على إبعادي عن محيط الرئيس بكل وسيلة ممكنة،.
لكنني حرصتُ دائما على التصرف طبقا لمنطق الدولة كما أراه، وخارج الوطن بوجه خاص.
وعرفتُ أن من سيقدم الرئيسَ للمشاركين هو السيد طلال سلمان مدير صحيفة “السفير”، فتشاءمتُ، لأنني أعرف الرجل، نوعية وعلاقات وارتباطات جزائرية وليبية، وحاولت أن أتحدث معه قبل الجلسة لأضعه في صورة التطورات التي عاشها الرئيس منذ كان وزيرا للخارجية، لكنه بدا لي عازفا عن الكلام وعن الاستماع، بحيث كدتُ أقول إنه تلقى تعليمات بذلك، لولا خوفي من أن أظلم الصحافي المتميز أو أن أتهم بالبارانويا.
وكان تدخل رفيق الحريري في المؤتمر ممتازا، إذ أنه جسّد أسلوب رجل يعرف كيف يتعامل مع جمهور المثقفين، وهكذا ظل واقفا على المنصة ممسكا بالميكرفون، وراح يتحرك جيئة وذهابا على طول وعرض الأمتار التي توفرها منصة ترتفع نحو متر عن أرضية القاعة، وينظر في عيون من يتابعونه وكأنه يُحدث كلا منهم على حدة، وكان ذلك بالفعل أمر ذكيا وممتعا.
وتدخلتُ في إحدى الجلسات تعقيبا على ما قاله وزير الخارجية الفرنسية الأسبق السيد هيوبرت فيدرين، وحرصتُ في تدخلي أن أوضح للحضور بأن أعداء الأمس لم يفهموا شيئا على الإطلاق في مسيرة شعبنا، ثم استعرضتُ عددا من أفكاري المعروفة التي لا أرى داعيا لاجترارها من جديد.
لكن المؤتمر كان يحمل مفاجأة غير سارة، ففي اليوم التالي وصل الرئيس الجزائري من تونس حيث شارك في اجتماع 5 + 5، وكان واضحا من النظرة الأولى أنه كان مُرهقا من أعباء الاجتماع ومن طول السفر واختلاف التوقيت، ولم تحاول مصالح البروتوكول الجزائرية مجرد دعوتنا لاستقباله عند الدخول إلى القاعة، فاكتفينا بانتظاره في القاعة الكبرى للفندق حيث سيلقي محاضرته، تماما كأي مدعوّ آخر لا علاقة له بالرئيس من قريب أو من بعيد.
وفوجئت هناك بأن الرئيس سوف يُجلَسُ على مقعد فاخر (FOUTEUIL) في واجهة المنصة التي كان عرضها نحو عشرة أمتار وعمقها نحو ثلاثة، وأحسست بأن علي أن أفعل شيئا لتغيير هذه الوضعية، ربما على ضوء النتائج الإيجابية للأسلوب الذي استعمله الحريري بالأمس.
وعندما دخل أحد مستشاري الرئيس مع بعض الوزراء قبل دخول بو تفليقة، ذهبت نحوهم على الفور لأروي لهم أسلوب الحريري الذي تحمس له المستمعون في اليوم الماضي، وأضفت أن الكرسي الوثير يعطي مشاعر لا أتصور أن المثقفين في المشرق ينسجمون معها.
ونظر إليّ مستشار رئاسي بتعالٍ قائلا بأن رئيسنا لن يتحدث واقفا، فهو ليس مثل الحريري.
وأحسست بالرثاء للرئيس، لأن هذه هي نوعية من يحيطون به.
والواقع أن ما حدث بعد ذلك كان كارثة، فقد غرق الرئيس في المقعد الوثير، وبدا بعيدا جدا عن الحاضرين، وافتتح طلال سلمان الندوة بمقدمة طويلة لم يكن لها داعٍ استعرض فيها مآثر الرئيس الأسبق أحمد بن بله (نعم، بن بله) وتواضعه (وهو كان يعرف الشنآن بين الرئيسين) ثم أعطى الكلمة للرئيس الذي قدم فقرات من مداخلة جرى توزيعها فيما بعد باللغتين، وكان واضحا أنه لم يكن مرتاحا لما يحدث، والذي أضاف إرهاقا لإرهاقه الذي جاء به.
وأعطِيتِ الكلمة للقاعة لطرح الأسئلة على الرئيس، فتحدث اثنان، هما وزير التعليم التونسي الأسبق عبد السلام المسدي، ثم رئيس تحرير مجلة العربي السابق الكويتي محمد الرميحي، ولكن الرئيس بدا متهجما ومستفزا، وأثار ردّه استياء من استمع له وفوجئ به.
ورُحتُ، بعد انتهاء الندوة، أهدئ عددا من الكويتيات رُحن يَصْرخن منددين بالرئيس الجزائري وبأسلوبه الحادّ في ردوده، ورغم أن أحدا لم يكلفني بشيء فقد أحسست أن من واجبي التماس المعاذير للرئيس ومسْح “الموسى” في التنظيم، ولعلي أزعم أنني نجحت في امتصاص حجم كبير من الغضب، خصوصا عندما رأت الغاضبات الأسلوب الودي الذي كنا نتحدث به، محمد الرميحي وأنا.
وهكذا لم يسمح لنا البرتوكول بمجرد الاقتراب من الرئيس، ولم أعرف ما إذا كان ذلك بمبادرة من رشيد معاريف، المعروف، أو بتعليمات من الرئيس، وكانت زيارة الرئيس لبيروت فشلا ذريعا تناقل المثقفون هناك أخباره في سهرات متتالية، وظلوا يذكرونه كلما ذكرت الجزائر.
تلك حكاية من حكايات أخرى مماثلة تعطي الحق لشبابنا وهو ينددون بوضعية كنا نتفادى مجرد الحديث عنها، لأن هذا كان منطق الدولة كما تصورناه.
ملحوظة: حتى لا يتسرع البعض كالعادة أنبه بأن كل ما ورد هنا نشر في كتاب يحمل عنوان”وزيرا زاده الخيال” صدر في الجزائر منذ نحو خمس سنوات، وكان يوجد في كل معارض الكتاب العربية.
دكتور محيي الدين عميمور- مفكر ووزير اعلام جزائري سابق والمقال من رأي اليوم