الأنموذج «الترامبي» في العلاقات الدولية
شهد العامان 1961 و1962 أخطر أزمة تعرضت لها العلاقات الروسية – الأميركية خلال فترة ما يعرف بالحرب الباردة، وهي أزمة الصواريخ الكوبية التي نشرها الاتحاد السوفياتي السابق في منطقة الكاريبي وجزيرة كوبا في تشرين الأول (أكتوبر) 1962، وكادت أن تؤدي إلى قيام الحرب العالمية الثالثة، لولا معالجة الرئيس الأميركي آنذاك جون كيندي للموقف، بعد غزو خليج الخنازير في عام 1961 من قبل الولايات المتحدة بغرض إسقاط نظام الرئيس الكوبي فيدل كاسترو. نزع كيندي فتيل الأزمة من طريق وساطة يوثانت السكرتير العام للأمم المتحدة في ذلك الحين، بعد أن أقنع السوفيات بسحب الصواريخ مقابل تعهد واشنطن بعدم التدخل في الشأن الكوبي.
وإذا تخيلنا وقوع مثل هذه الأزمة في عالم اليوم، فإننا نتساءل: كيف سيتعامل الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب معها؟ لكان السيناريو أكثر درامية ويصل إلى حد الكارثة العالمية، نظراً لطبيعة المعالجة المختلفة المتوقعة للأزمة من قبل ترامب. فقد ينفجر الموقف، لأنه سيعاند ويطلق تهديدات تعقد الأزمة، ويصل إلى حافة الهاوية وهي سياسة يُقصد بها تحقيق مكاسب معيّنة من طريق تصعيد أزمة دولية ما، ودفعها إلى حافة المواجهة، مع إيهام الخصم أنه يأبى التنازل أو الرضوخ ولو أدّى به ذلك إلى اجتياز هذه الحافة الخطرة. فعل ذلك وزير الخارجية الأميركي السابق جان فوستر دالاس غير مرة خلال حقبة الحرب الباردة في الخمسينات. ويبدو أن ترامب تأثَّر به، لدرجة أن سياساته في معالجة الأزمات الدولية، أقرب ما تكون لسياسة حافة الهاوية. ومنذ أن جاء ترامب إلى البيت الأبيض، نجد أيضاً أن سياساته تتسم بالرعونة ويغلب على مواقفه التسرع، الأمر الذي قد يتسبب في مواجهة نووية غير محمودة العواقب. والفارق بين ترامب وكيندي، أن الأخير كان سياسياً مرناً، يعي مصلحة بلاده، بينما ترامب يعتبر شخصية عنيدة متسلطة، ويميل إلى استعراض قوته في شكل يظهره في قمة الغرور. وربما يفسر لنا هذا، استمرار الصدام بينه وبين وسائل الإعلام التي يصفها دائماً بأنها كاذبة. ويمكن القول أن كارثية سياسات ترامب، تبدو في قرارته المتسرعة، وعدم دراسته النتائج المترتبة على اتخاذها، ما يؤكد أنه ليست لديه خبرة سياسية، ويتعامل مع المواقف بعقلية رجل الأعمال أو السمسار. اتضح ذلك في أنه يمارس نوعاً من «البلطجة الدولية»، إذْ تراكمت سوابقه في ميادين أخرى تخص قضايا دولية، مثل تنصله من اتفاق باريس حول المناخ، ومن منظمة اليونيسكو ومجلس حقوق الإنسان ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين، وعلاقته المتأرجحة بالاتحاد الأوروبي. غير أن الصفة الأكثر غرابة في ترامب هي تلونه في شكل يجعل له أكثر من وجه، وبرز هذا في تعاطيه مع ملف كوريا الشمالية، الذي يتغير من النقيض إلى النقيض. فهو في اللحظة التي يهاجم فيها نظيره الكوري الشمالي كيم كونج اون، يقرر إلغاء عقوبات كانت إدارته فرضتها على بيونغ يانغ، متحدّثاً عن «المعاناة» التي يعيشها الكوريون الشماليون، لكنه يقول: «هذا لا يعني أنّني لن أفعل ذلك في وقت لاحق»، ما يعكس حالة من التناقض، تحتاج معالجا نفسياً أكثر من احتياجها إلى محلل سياسي. وأصابت حالة التلون التي يعاني منها ترامب العلاقات العربية – الأميركية، عندما خلع وجه الصديق الأميركي للعالم العربي، وكشف عن وجه قبيح يمهد لمشروع تسوية بين إسرائيل والفلسطينيين أصبح معروفاً إعلامياً باسم «صفقة القرن». وبدأ هذا التمهيد بتكريس الاحتلال الإسرائيلي للقدس والجولان، توطئة لإعلانه إغلاق ملف اللاجئين وإلغاء حق العودة. فلم يكن قراره الجديد الاعتراف بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان المحتلة منذ حرب 1967، إلا خطوة أخرى جاءت على غرار قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة، فهو بذلك لا ينتهك القانون الدولي ومقررات الأمم المتحدة فحسب، بل يضرب في مقتل ما كانت الولايات المتحدة نفسها قد صادقت عليه في أحقاب سابقة، وكان أصلاً يلبي مقدار الحد الأدنى من التزام واشنطن بتوافقات المجتمع الدولي. وأتصور أن هذه السياسة المعادية للعرب، قد تبدو ورقة انتخابية يدخل بها ترامب معركة الولاية الثانية لانتخابات الرئاسة الأميركية من جهة، ومساعدة رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتانياهو، على انتشاله من مآزقه السياسية ومتاعبه القضائية قبل انتخابات لا تبدو مواتية له أو لتحالفاته من جهة أخرى. ويهدف ترامب من هذه الخطوة كسب أصوات اللوبي الصهيوني في أميركا. لكن كيف سيتعامل العرب مع «النموذج الترامبي»، الذي يمثل حالة شاذة لكاريزما مفتعلة، في العلاقات الدولية في القرن الـ21؟
أتمنى أن تكون الإجابة واضحة لدى القادة العرب، إذ من الضروري أن يتفهموا الجوانب النفسية لشخصية ترامب، قبل محاولة فهم دوافعه السياسية!