لماذا لن أشارك في اللقاء التشاوري الجزائري؟/ علي بن فليس
23 أبريل 2019، 01:48 صباحًا
تلقيت رسالة مؤرخة في 18 أفريل الجاري، وجهت إليّ من طرف السيد الأمين العام لرئاسة الجمهورية، وتضمنت دعوة للمشاركة في اللقاء التشاوري حول إحداث هيئة وطنية لتحضير الانتخابات الرئاسية وتنظيمها. وإذ أعلم المرسل أنني أوليت الرسالة المذكورة كل العناية والاهتمام اللذين تستحقهما. إلا أن قراءتي المتأنية للرسالة ـ الدعوة قد ساهمت في تمكيني من تقييم مدى الهوة التي باتت تفصل بين الحكامة السياسية الراهنة للبلد وسائر الشعب الجزائري. والغريب في الأمر هو أن الثورة الديموقراطية السلمية الزاحفة ببلدنا لم تبخل بالوضوح ولم تغفل قوة التعبير لإيصال صوت آمالها وتطلعاتها. وبالفعل، فإن قراءة ورؤية وسماع هذه المطالب المشروعة هي في متناول كل من يكلف نفسه عناء القراءة والإبصار والإصغاء. وهي لا تحتاج إلى تفسير معقد ولا تقتضي فتاوى صعبة وخارقة للعادة لفك شفراتها. وإنه لمن الجلي، بالنسبة إليّ أننا اليوم أمام حكامة سياسية مصمِّمة على فرض ما تريده ومتمادية في التصرف حسب أهوائها ونزواتها. ومن هذا المنظور، فإن ما لا تأخذه هذه الحكامة السياسية في الحسبان ولا تضعه في اعتباراتها المغلوطة أصلا هو أنها تقف في مواجهة شعب عازم على استرجاع سيادته كاملة غير منقوصة. وهي سيادة يتحدد معناها القطعي في رجوع الكلمة الأخيرة إليه (الشعب) وعودة حق قولها له وحده دون سواه.
يبدو لي في هذا السياق، أن ثمة تباعدا صارخا في الاتجاه بين هذه الحكامة السياسية والثورة الديموقراطية السلمية التي تتقدم بخطى ثابتة في بلدنا. ويتوضح هذا التباعد في الاتجاه من خلال ثلاثة أصعدة على أقل تقدير، وهي:
على الصعيد الأول، فإن الثورة الديموقراطية التي يخوضها بلدنا ويتشرف بها أيما شرف تطالب صراحة وبشدة برحيل نظام سياسي عانى منه شعبنا طويلا، وكبّده من الغبن والظلم والإضعاف ما لا يوصف وما لا يُحصر. كما تطالب هذه الثورة الديموقراطية السلمية بنفس الصراحة والقوة بالاحتكام غير المحدود وغير المشروط إلى السيادة الشعبية، وإلى إعادة الاعتبار للشعب كمصدر لكل سلطة.
إن رحيل منظّر ومهندس هذا النظام السياسي المرفوض لا يمكن اعتباره بتاتا زوالا أو رحيلا دون رجعة للنظام السياسي ذاته، بل على العكس تماما فإن النظام السياسي الذي نطق الشعب بحكمه النهائي عليه لا يزال قائما من خلال وجوه ورموز تواصل الاحتفاظ بمقاليد الحكم في أهم مؤسسات الجمهورية، ولاسيما رئاسة الدولة والمجلس الوطني الشعبي والحكومة.
إن الثورة الديموقراطية السلمية لم تقم فقط من أجل ذهاب رجل أوصل إلى منتهاها عملية تقديس الرجل المعجزة والمتعطش إلى الحكم مدى الحياة. وإنما قامت هذه الثورة أيضا من أجل الرحيل الفوري لكل الذين قاسموه المسؤولية الكبرى في إحداث الكارثة الوطنية الحقيقية التي يرثها البلد اليوم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
وعلى الصعيد الثاني، فإن البلد يواجه انسدادا سياسيا خانقا ومقلقا. وقيادة رئاسة الدولة والمجلس الشعبي الوطني والحكومة هي، في هذه الساعات الحرجة ومن دون منازع، في قلب هذا الانسداد السياسي الذي يهدد البلد بمخاطر شتى. ويثقل، بعد كل يوم يمر من عمر هذا الانسداد، السعي لإخراج البلد منه بتكاليف باهظة. ففي وثبة لم تُضيّع ذرة من قوّتها إلى اليوم، وفي إجماع لافت وصلب وثابت يواصل الشعب الجزائري المطالبة بوضع رئاسة الدولة والمجلس الشعبي الوطني والحكومة بين أيادي يثق فيها ويطمئن لصدقها ومصداقيتها. ويرى فيها الحافظ القوي والأمين لمطالبه الشرعية والساعي النزيه والمخلص لتجسيدها. وإن مطلبا كهذا ليس بالمطلب العادي بل هو مقتضى من المقتضيات الأساسية التي من شأنها تلبيته المساعدة على تجاوز الانسداد السياسي الراهن وإدخال التهدئة والطمأنينة في العقول والقلوب وإعطاء الدفع المنشود لحل الأزمة الطارئة الراهنة.
وعلى صعيد ثالث، فإنه لمن البديهي أن أولوية الساعة لا تكمن إطلاقا في مشاورات حول إحداث هيئة لتحضير الانتخابات وتنظيمها. وإنما هذه الساعة هي ساعة ينبغي أن تستغل في البحث عن حل شامل وكامل للأزمة السياسية الحالية. وأما إحداث هيئة كالهيئة المذكورة فليس بمقدوره أن يسهم في هذا الحل قيد أنملة. و من حق الجميع ألا يرى فيه سوى محاولة مكشوفة لتقزيم المطالب الشعبية والمشروعة وإفراغ الثورة الديموقراطية السلمية من مضامينها السياسية الجوهرية. وبالتالي، فلا تغدو هذه المبادرة أن تكون بمثابة استبدال ما هو جزئي وثانوي بما هو جوهري وأساسي.
وفذْلَكَة القول ومجمله في نظري، أن هذه المشاورات تستبق الأحداث للمغالطة والتغليط، وأنها تقع خارج موضوع الساعة، كما أنها عكسية الجدوى؛ لأن شعبنا يرى فيها، لا محالة، ضربة عشواء يائسة أخرى لتجنب الاستجابة الفعلية لمطالبه الحقيقية. وفضلا عن ذلك، أنها تجري خارج موضوع الساعة؛ لأن الموضوع المطروح، وبإلحاح اليوم، يتعلق بكل وضوح برئاسة الدولة ورئاسة المجلس الشعبي الوطني والحكومة. وأخيرا، إنها سلبية الجدوى، أيضا، لأن البلد يمضي في سباق ضد الساعة، ولكن هذه المحاولة الخاسرة تهدر وقتا ليس لدينا متسع منه.
وعليه، فإنني لن أشارك في المشاورات المزمع تنظيمها من طرف رئاسة الدولة والتي دعيت إليها. وإنني، كمواطن خرج من صلب هذا الشعب الذي يملأ الشوارع حاملا سلميته في قلبه وعلى ظهره، أتقاسم معه كل مطالبه الشرعية والعادلة. وأما كمسؤول سياسي، فإن واجب الالتزام يملي عليّ العمل في حدود إمكاناتي وقدراتي للإسهام في تحقيق هذه المطالب الواعدة المبشرة بالمواطنة الجديدة وبدولة الحق والقانون وبالجمهورية الديموقراطية الحديثة.
علي بن فليس ـ رئيس حكومة أسبق ورئيس حزب “طلائع الحريات” ـ الجزائر. المقال من رأي اليوم